متطلَّبات سابقة للتغيير السياسي
في حقبة سابقة لهذا الزمن، كان الفكر والرأيُ السياسيُّ هما المُعَوَّل عليهما في حشْد الأنصار لأيّ حزبٍ سياسيّ، أو طامحٍ للسلطة، صحيحٌ أنَّ الرأي لم يكن مُتفرّدًا أو صافيًا، إذ طالما كان عُرْضةً للتلاعُب العاطفي، والمغالطات التي تصرف عن محاكمة الرأي، وفْق معاييره المفترَضة؛ من مطابقة الواقع، وإمكانيّات الرأي الإنتاجية، لكن الصراعات والتنافُسات كانت لا تملك التغاضي عن المعارك الفكرية، والتفنيدات السياسية، أو حتّى الكاريزما الشخصية للحاكم أو الزعيم، تلك الكاريزما لم تكن تستغني عن تميُّز الخطاب السياسي، والفكري، ولو أداةً جاذبة، أو عن معانقة هذا القائد أحلامَ شعبه، وتمثُّله تطلُّعاتهم، ولو ظاهريًّا. ولكن، بعد أن غاب الزعماء، تقريبًا، في بلاد العرب، بمعنى القائد المُنقِذ والملهِم، والمُوحّد، حصل انكفاءٌ مصلْحيّ، ضيّق، إمّا بدافع نهَم الاستهلاك، أو لضرورة العيش ومتطلَّباته المُلحَّة. وذلك كلّه تحت شعار فضفاض هو "الواقعية السياسية".
وجرّاء إخفاق الآمال الكبرى، تشكَّلت أرضيةٌ نفسية تربوية أخلاقية غير سليمة، أصبح تجاهلُها مُجحِفًا في أيّ خطابٍ سياسيّ تقليدي، وصار إصلاحُها، متطلّبًا ضروريًّا إذا أردنا قدرًا صالحًا من النفاذ والتأثير. ولو أنّ هذا الإصلاح ليس بالأمر الهيِّن، إذ يتطلَّب حشدًا من الجهود المُتخصّصة، بالتوازي مع تثمير أيّ نجاحات واقعية، لتجارب ذات طابعٍ عمومي؛ لتكون رديفًا، أو رافعةً. وهنا، نتلمَّس بعض دوافع إجهاض "الربيع العربي"، إذ اشتركت قوى دولية ومحلّية في إحباط آمال الشعوب التي تطلّعت إلى تحقيق نفسها، ويمكن أن نحسّ، في منطقتنا، إصرارًا عنيدًا، بلا هوادة، لإحباط أيّ تجربة مُلهِمة، قد نكون، نحن أيضًا، متورّطين في ذلك، بمحدودية صبْرنا، أو بافتقادنا العمل الجماعي القادر على مراعاة الأولويات، والقواسم المشتركة، لكنّ شبه المُؤكَّد أنّ إصرار القوى الفاعلة، هنا، أكبر منه في مناطق أخرى، طرَفيّة.
وعوداً إلى الأرضية النفسية الأخلاقية، يمكن الاتّكاء على مفهوم "الآثام السبعة"، و"المعروفة، أيضاً، باسم الذنوب الكاردينالية، وهي تصنيف لمعظم الشرور التي استُخدمت لتوعية وتوجيه أتباعها، منذ بداية المسيحية، مرَّات عديدة، لكلّ ما هو "غير أخلاقي"، وما قد يدفع بالإنسان إلى الوقوع في الخطيئة. و"الآثام السبعة المميتة" (Seven Deadly Sins) تُعرَف باسم الرذائل، أو الآثام الكُبرى، وتشمل الشهوة والشَرَه والطمع والكسل والغضب والحسد والغرور. ومع أنّ هذه الدوافع الشِّريرة، تميل إليها النفس، طبيعيًّا، وذاتيًّا، إلا أنّ نظُمًا عربية أفلست من أيّ أبعاد سامية، وقبلت الخضوع، بل التماهي مع الأوضاع المُختلّة، المُغيّبة للشعوب، ولمطالبها وآمالها الحقيقية، عملت على توظيف هذه الطباع المُدمّرة، أو أنّها، أحيانًا، قامت بتغذيتها لسحْب التفاعُل إلى ميدان مغايِرٍ، تُعطّل فيه الأدواتُ الفكرية، والسياسية، تمهيدًا لفرْض أجنداتٍ مُنخفضة السقوف، تمسّ الحقوق القومية والوطنية للأقطار نفسها، وتنال من ثرواتها ومقدَّراتها، وقرارها المُستقلّ، كما نرى من السماح بتهديد مقوّمات الاستقلال، بل متطلّبات الحياة العادية، كما مثلًا، لا حصرًا، في تهديد إثيوبيا نهر النيل، وحصَّةَ مصر من مياهه.
اشتركت قوى دولية ومحلّية في إحباط آمال الشعوب التي تطلّعت إلى تحقيق نفسها
وفي هذا السياق، شهدنا طوفاناً من اللعب على الغرائز، بأساليب فجّة، كما في كثير من الأفلام السينمائية، والأعمال الدرامية، حين ارتفعت فيها مناسيبُ العنف، ومخاطبة الغرائز العدوانية والشهوانية، من دون أن يتضمّن العمل ما يشير إلى رفضِها، بل قد يتضمّن إشادةً بها، وتظهيرًا على أنّها علاماتُ قوةٍ، ونجاحٍ ومعاصَرة. وكما شهدنا في السعودية، أخيرًا، قفزةً مُستغرَبة إلى عروض أزياء نسائية، بملابس البحر، برعاية الدولة، في انعطافةٍ حادّة، تربِك حتّى المُعلَن من هُويّة الدولة وانتمائها.
والصحيح أنّ هذه الثمرة كانت، فيما أمّل الساعون إليها، نتيجة مجهودات منظّمة ومموَلة، في الترويج لنمط الحياة الغربية، القائمة على الاستهلاكية، وبريق التملّك المبالَغ فيه، بما يقترب من الشَرَه، والملاحَقة المُنهِكة المحمومة.
ومن جانب آخر، جرى استخدام المشاعر الوطنية على نحو معكوس، ومضلّل، بتصوير أيّ انتقاد للطبقة الحاكمة بأنّه انتقاصٌ من البلد نفسه، ومن الشعب، وتاريخه، وكرامته، في إثارة خبيثة لغريزة الغضب، وتوجيهها توجيهًا معكوساً، بدل أن يكون هذا الغضب ضدَّ مَن يظلم الشعب، ويستبدُ بقراراته المصيرية، أو يعزله عن محيطه العربي والإسلامي، أو يسلخه عن ثقافته وهُويّته. جرى تصريف هذا الغضب (الذي يمكن أن يكون مُعَقلَنًا، ودافعًا إلى الضغط والترشيد)، إلى مَن ينتقد، ويحاسِب، ولو كان من أبناء البلد نفسه، ورميه بتُهم الخيانة الوطنية.
وبالتوازي مع ذلك، كان ثمَّة عملٌ على تضخيم الشعور الوطني إلى حالة مرَضيَّة، مهجوسة بالحسَد، أو مثقلَة بالغرور والشوفينية؛ لعزْل أيّ مناقشة موضوعية، وسط حالة الزهو، والتفاخُر، الموهِمة بالاكتفاء في مقابل شعوب (هكذا، أحيانًا)، شعوب كاملة، حاسِدة، ليحقّق ذلك مناعةً أمام التعاطُف، مجرَّد التعاطُف، مع الشعوب المُمْتحَنة، بالظلم المجحِف، أو بعدوّ كان لا ينبغي الاختلافُ بشأن عداوته، الصريحة والعنصرية، كما الاحتلال الصهيوني.
جرى استخدام المشاعر الوطنية على نحو معكوس، ومضلّل، بتصوير أيّ انتقاد للطبقة الحاكمة بأنّه انتقاصٌ من البلد نفسه، ومن الشعب وكرامته
وقد يستغرب بعضُنا عدّ الكسل من الآثام العظيمة (وفي الحديث النبوي استعاذةٌ منه)، وهو قد يؤدِّي إلى الشعور بالعجز، أو قد ينجم الكسلُ عن الشعور بالعجز، ذلك أنّه يعطِّل القدرات، وينزع بالمصاب به إلى الاستسهال في الجهد البدني والذهني، ما يَحمِلُ على قبول الرائج من الآراء، من دون تمحيص، والانخراط في الجموع المُنقادَة، ومن ثَمَّ، استعظام أيّ محاولاتٍ لكسر المُكرّس من معادلات ظالمة، بل المُضيّ إلى ذمّ فاعليها، برميْهِم بالمغامرات غير المحسوبة، والأفعال الطائشة، وكأنَّ المطلوبَ الاستمرارُ في خفْض الرؤوس كلّما انخفضت السقوف، كي نحظى بتكريم "العقلانية" و"الاعتدال"، في مقابل نظامٍ دوليّ يزداد وقاحةً بغضّه الطرْفَ عن جرائمٍ تُرتَكب، عيانًا، من قتل مُسرفٍ للأطفال والنساء بأبشع الأساليب، وأوسعِها نطاقًا، بتدمير البيوت، وحرْق الناس العُزّل وهم أحياء، وبالتجويع المفضي إلى الموت الحاصل في غزّة، وفي السودان، من دون أيّ حراك جادّ، يوقف أولئك المُجرمين، وفي مقابل أطراف في الصراع، يجهرون بعنصريّتهم في استحلال أرواح الأبرياء، والتمادي في وصف الضحية، بل وأيّ عاملٍ للتخفيف من معاناتها، بالإرهاب، كما وصف وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بالإرهاب.
كانت كلمات الأمين العام للأمم المتّحدة أنطونيو غوتيريس أمام القادة العرب، في قمَّتهم العربية في دورتها الـ33، التي انعقدت في المنامة، عاصمة البحرين، لافتةً، وخارجةً عن المزاج العربي الرسمي العام، وفي جوهر كلماته أنَّ المطالب لا تُنال بمُجرّد الاستجداء، بل بامتلاك أسباب القوّة، والتوحّد، ونبذ الانقسامات والفُرقة. هذه هي الواقعية السياسية المُفيدة، وهذه الغاية مُحتاجة إلى وسائلها وركائزها؛ من مضادّات "الشهوة والشَرَه والطمع والكسل والغضب والحسد والغرور"، إلى الانفعالات المُنضبطة والمثمرة والبنّاءة.