متى تتعب إسرائيل؟
كلما ظننّا أن دولة الاحتلال الإسرائيلي بدأت تتعب جرَّاء مقاومة الشعب الفلسطيني حربها ومجازرها التي تقترفها يومياً بعد غزوها قطاع غزّة قبل عشرة أشهر، وجرَّاء الانقسامات الداخلية التي تسبب فيها طوفان الأقصى والحرب، وجرَّاء الخزي والعار اللذين لحقاها عبر العالم، تأتي إشارة لتقول إنها لم تتعب بعد، ولم تشبع من دماء الفلسطينيين وشعوب المنطقة. يكفي ضربها الحُدَيدة اليمنية واغتيالها القائد الفلسطيني إسماعيل هنيّة في طهران، والقائد الميداني في حزب الله فؤاد شكر، قبل أيام. ويكفي استمرارها في حرب الإبادة في غزّة وحربها على أهل الضفة الغربية وأهل الجنوب اللبناني، وضرب الأراضي السورية، لتقول إنها لم تتعب بعد، ذلك التعب الذي يمكن أن يُثنيها عن إجرامها. لكن التعب المقصود قد يحلّ بها فجأة، ومرّة واحدة، وتكون له تداعياته غير المحسوبة عليها وعلى سكّانها، إذا ما استمرّت المقاومة، وإذا ما قرّرت الشعوب العربية عدم الاستمرار بصمتِها ومواقفها السلبية.
لم يكن متوقّعاً أن تطيل دولة الاحتلال حربها التدميرية على الشعب الفلسطيني في غزّة هذه المدة الطويلة، وذلك بسبب الاحتمالات التي وُضعت أول الحرب عن عجزها عن خوض حرب طويلة تزيد انقساماتها الداخلية وتستنزف جيشَها عتاداً وأفراداً، وتؤثر على اقتصادها، وتدفع سكانها من اليهود لمغادرتها واللجوء إلى دولٍ أكثر استقراراً، علاوة على الإدانات والسخط الدولي الذي يمكن أن تلقاه من الشعوب والحكومات، وتغيُّر الرأي العام العالمي سلباً تجاهها. وبرز من بداية الحرب أن قادة الكيان وضعوا أهدافاً كبيرة إلى درجةٍ يصعب تحقيقها. فهدف تدمير حركة حماس والقضاء عليها، وهدف الإفراج عن الأسرى الإسرائيليين لدى الحركة، أظهرت المعارك وفترة الأشهر العشرة من التدمير غير المسبوق والإبادة الجماعية صعوبة تحقيقهما، على الرغم من أنهما أولوية لدى قادة العدو. كما أظهر القتال العبثي في غزّة لجنود العدو أنهم باتوا يقاتلون بلا هدف، بسبب عجزهم عن تحقيق أي إنجاز في حربٍ كان متوقّعاً لها أن تستمر أسابيع قليلة، لكنها قاربت على إنهاء عامها الأول.
برز من بداية الحرب أن قادة الكيان الصهيوني وضعوا أهدافاً كبيرة إلى درجةٍ يصعب تحقيقها
أما الهدفان الآخران، إعادة ثقة الإسرائيليين بقادتهم وجيشهم وتوفير الأمان لهم، وترقيع استراتيجية الردع الإسرائيلية التي مزَّقتها المقاومة، فقد أثبت استمرار نزوح عشرات آلاف الإسرائيليين من مناطق التوتر، ومحاربة الإسرائيليين على عدة جبهات فُتحت بوجههم، واستمرار المقاومة في غزة، استحالة تحقيقهما. كما برز احتفاظ المقاومة بقدراتها العسكرية، وقدرتها على استهداف مستوطنات غلاف غزّة، وقدرتها على إعادة بناء نفسها وتبنّيها تكتيكات جديدة أتعبت العدو وأصابت جنوده وقادته بالإحباط. أما الهدف الآخر غير المعلن، أو الذي يطلّ برأسه بين الفينة والأخرى، وهو تهجير سكّان القطاع إلى مصر أو أي مكان آخر وإعادة احتلاله من أجل استيطانه، فقد بيَّن رفض الغزّيين مغادرة القطاع وتشبثهم برماله عقم هذا التوجّه الإسرائيلي ومدى عجز الكيان إزاء شعبٍ مستضعفٍ ومذبوح.
لم يكن ليخطر في بال أي محلّل عسكري، أو حتى جنرال إسرائيلي، أن حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ما زالت تحتفظ بقدرتها على إطلاق صواريخ على تل أبيب، بعد عشرة أشهر من حربٍ دمّرت كل أثر بشري في القطاع. ويأتي إطلاق صاروخين من منطقة قريبة من منطقة تجمع قوات عسكرية إسرائيلية قبل أيام، وللمرّة الأولى منذ مايو/ أيار الماضي، ليؤكد قدرة المقاومة على مفاجأة العدو، ويبعث رسالة تتعلق بفشل الإسرائيليين في القضاء على قدرات الحركة العسكرية. وقد برز في الحرب أن "حماس"، وغيرها من الفصائل المقاومة، تعيد حساباتها على الدوام وتغيِّر تكتيكاتها المتبعة في مقاومة جيش الاحتلال ومواجهته وإيقاع الخسائر المؤلمة بصفوفه، علاوة على ما نقلته تقارير عن إعادة الحركة بناء قدراتها القتالية في شمال غزّة ووسطها، على الرغم من الوحشية التي اعتمدتها قوات الاحتلال، والمتمثلة في استخدام قوة نارّية هائلة في تدمير كل قطاعات الحياة في جميع أنحاء غزّة.
سيكون تعباً يأتي إسرائيل مرّة واحدة ومن الحجم الثقيل، كما الإجهاد الذي يقضي على جسدٍ كابَر طويلاً إلى حد إهمال علامات الانطفاء المفاجئ
تُتعب كل هذه المعطيات إسرائيل، لكنها تَتعَب أكثر عندما تتشكّل قيادة فلسطينية موحّدة تنهي الانقسام الفلسطيني فعلياً، وتبني على التضحيات الكبيرة التي قدّمها الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية، وعلى المقاومة اللافتة التي أظهرها في وجه مشروع الإبادة الإسرائيلي في غزّة ومشروع التهجير في الضفة الغربية، وما خلا ذلك سيعني ضياع تضحيات هذا الشعب، وستبدو المقاومة أعمالاً منفردة ودورية، وليست عملية تراكمية كما يفترض بها أن تكون. وإذ كانت كل الاتفاقات السابقة ومحاولات وقف الانقسام الفلسطيني قد فشلت، جاء تزامن اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة مع توقيع اتفاق بكين للمصالحة الفلسطينية، في 23 يونيو/ تموز الماضي، ليصبح فرصة، بدلاً من المصيبة، ويدفع باتجاه تعزيز ذلك الاتفاق عملياً. محاولة تأخذ بالاعتبار حجم الخطر الوجودي الذي تواجهه "حماس" وفصائل المقاومة في قطاع غزّة والسلطة في الضفة، وخلفهما الشعب الفلسطيني بأسره، بفعل سياسات الحصار الإسرائيلي والغربي، وسياسات التجويع الممنهجة، علاوة على المجازر اليومية التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزّة، والتي يبدو أنها صارت سياسة ثابتة تهدف إلى إبادة سكّان القطاع.
إذا كان ما أتي عليه لا يُتعب دولة الاحتلال ويضع لعدوانها ضد دول الجوار وحروبها الدورية على الشعب الفلسطيني ومجازرها حدّاً، فإن فشلها في تحقيق أهدافها في حرب الإبادة الجارية بحقّ الشعب الفلسطيني يمكن أن تُتعبها. سيُتعبها فشلها في القضاء على "حماس" وفصائل المقاومة في غزّة، وفشلها في تهجير الفلسطينيين من القطاع. وسيُتعبها فشلها في استعادة الأسرى، وفشلها في تحقيق الأمان لسكان مستوطنات الشمال قرب لبنان والجنوب قرب غزّة. وسيُتعبها إرهاق جيشها وخسائره الجسيمة وفشلها في إعادة ترقيع استراتيجية الردع. وسيُتعبها فشلها في وقف الانقسام الداخلي والهجرة العكسية، وفشلها في منع إلصاق العار بها بسبب مجازرها، واستمرار رفع الدعاوى بحقّها أمام المحاكم الدولية، كذلك فشلها في استنزاف جيشها واقتصادها. فشل قد يُتعبها، ولكنه سيكون تعباً يأتيها مرّة واحدة ويكون من الحجم الثقيل، كما الإجهاد الذي يقضي على جسدٍ كابَر طويلاً إلى حد إهمال علامات الانطفاء المفاجئ غير المحسوبة.