معاداة النسوية
وصفة معاداة النسوية بسيطة: المكوّن الأول: يكفي إعلانُ الصحافية البريطانية بترونيلا وايت أن النسوية خرّبت حياتها، لتنطلق "المزّيكا" في الأجواء العربية، وتكتمل الوصفة: أيها الناس، انظروا واسمعوا "امرأة غربيّة انقلبت على الحركات النسوية، وكشفت دورَها التخريبي للمجتمع التقليدي وللأسرة. فالضّحية (المغرّر بها)، وجدت نفسها، بعد بلوغها الخمسين، وحيدة وبلا أولاد (يا للمصيبة)".
المُطّلع قليلا سيعرف أن السيدة بترونيلا أبعد ما تكون عن بروفايل الضحية، فهي امرأةٌ لعوب، شغلت الصحافة الصفراء، وعلاقاتها كانت مدوّية، وبينها علاقتها برئيس الوزراء البريطاني السابق، اليميني بوريس جونسون، المتزوج آنذاك، والذي أجهضت حملَها منه. فهي إذن لم تكترث يوماً بقيم الأسرة، ولم تكن أيضاً مناضلة نسوية لأنها ابنة أبيها الصحافي وودرو وايت، الصديق المقرّب من مارغريت تاتشر، أيقونة اليمين المحافظ.
يبدو لوم شخص معتقداً أو مذهباً أو إيديولوجيا على فشل اختياراته مضحكا في هذا الزمن. لكن المطبّلين لإعلان السيدة لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث عن سيرتها، بل وجدوا سهولةً شديدة في ترويج وصفة ارتداء امرأة قوية ثوب الضحية. وتكرار ما قالته، كأنه ذو قيمة، بينما هو زوبعة في فنجان، تستدرج بها صاحبتها الأضواء، فالآراء المتزمتة تبحث دوماً عن عكّاز تبرّر به نفسها.
ردود الفعل هذه تفرض الحاجة إلى صكّ عبارة "معاداة النسوية"، لوصف "فوبيا النسوية" لدى زُمرة عريضة. ولكن من دون أن تُستعمل لخنق الأصوات، مثلما فعلت عبارة "معاداة السامية". هكذا نستعين بالعبارة لمواكبة النشاط المفرط لبعض عناصر "الذّكورة" التي كانت أكوابها ممتلئة، ففاضت في تمجيد نِسويةٍ مزعومة. ومتى كانت النسوية تتّخذ قرارات الناس؟ ومتى كانت النسوية ضد الأسرة والمجتمع والرجل؟
عدا عن أن عدم الإنجاب، وعدم الزواج نفسه، اختياران صارا رائجين، للنساء والرجال، يعتنقهما كثيرون بلا مرجعية إيديولوجية وبلا ندم، إلى آخر حياتهم. الندم الذي لا تخلو منه حياة الجميع، من ذوي الأولاد والعازبين على حد سواء، فالإنسان نفسه مشكلة نفسِه، واختياراتُه تنجح وتفشل بسببه. فالذي اختار الأسرة عليه إنجاح الخيار، لا أن يهمل أبناءه، ويأتي في أرذل العمر، ويشكو تخليهم عنه. وكذلك لا يمكن لمن فضّلت العيش حرّة على هواها أن تبكي في آخر العمر وحدتها، فلكل شيءٍ ثمن.
هذا التشويه المتعمّد للنسوية هوجة إيديولوجية تستفيد من جهل بعضهم، ومن التفكير الذكوري الذي لم يغادر حتى المثقفين والمتعلمين. النتيجة أن وصم النّسوية بأنها ضد الأسرة وضد الرجل وضد الطبيعة يعني أن كل هذا قائم على استغلال المرأة وإذلالها، وهذا التصوّر أخطر من أي تفكير آخر، فما طالبت به النسوية هو احترام المرأة، ومنحها درجة إنسان، وهي درجة لا درجات فيها. ولولا النسوية، منذ أول موجاتها، لما تحقق للمرأة الحقّ في التعليم، والمساواة، النسبية، في الرواتب، والحقّ في التصويت، والطلاق، والحضانة، وأشياء كثيرة، تعدّ من أبسط الحقوق الإنسانية.
لولا النسوية لظلّت المرأة أقلّ من طفل، وأكثر من قرد، في عيون المجتمع. بما أن الحركات التحرّرية في مجتمعاتنا كانت ضد الاهتمام بإنصاف المرأة. حيث ارتفعت بعض الأصوات داخل الحركة الوطنية في المغرب داعيةً إلى تأجيل النظر في تعليم المرأة إلى أن يتم تحقيق الاستقلال ثم ثبات النظام السياسي، وهو ما لم يتحقّق خلال عقود من ذلك. ولولا نضالات درّية شفيق وتضحياتها لما حصلت المرأة المصرية على الحقّ في التصويت، سنة 1956.
النّسوية، يا جماعة المثقفين، هي منح النساء صفة الإنسانية. وإلّا سنقول إن العبودية مسألة طبيعية، أو أن حركات التحرّر زمرة جاحدة وراديكالية لم تقدّر نعمة استعمارها من قوى متحضّرة تسيّرها، بينما هي على جهلها وفقرها عاجزةٌ عن ذلك، وأن الاستبداد ضروري، لأن شعوبنا غير جديرة بالثقة والحرية. لذا دعونا نتغطّى بالدكتاتوريات حتى لا نبقى عرايا، وعلى النساء أن يقبلن الحرمان من النجاح المهني، حتى لا تنهار الأسر التي تقوم على صبر المرأة وقيامها بـ"واجبها الطبيعي"، بدون تأفّفٍ ولا شعارات، وإلّا فالنسوية بالمرصاد "لتُخرب الجنس البشري".