مقطع من الفساد في المغرب
مثل دمّل كبير متقيّح انتفخ وطاب، ثم لمسته إبرة حادّة فانفجر بكل ما فيه، يعيش المغرب اليوم على إيقاع فضائح كبيرة تتعلق بالفساد ونهب المال العام. وبما أن أول الغيث قطرة، فإن القطرة التي أفاضت الكأس تمثلت في اعتقال شخصية سياسية كبيرة وتقديمها للعدالة على ذمّة التحقيق بتهمة تبديد المال العام. يتعلق الأمر هنا بامحمد مبديع الذي تقلب في أرفع الوظائف وأعلى المراكز في الدولة، حيث كان وزيرا سابقا ونائبا برلمانيا، ورئيسا للمجلس البلدي لمدينة الفقيه بن صالح (وسط)، والمنتخب قبل فترة لرئاسة لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان في مجلس النواب (اللهم زد وبارك). فقد تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل بكثافة غزيرة، أخيرا، حدث زواج ابنته في عرس ضخم بهيج تجاوزت تكلفته، حسب الصحف، ملياري درهم (مليوني دولار). البذخ والإسراف الفاضحان والصارخان جاوزا كل حدود، حتى أن الرجل لم يكتف بذبح الخراف كما تجري العادة، وإنما أراد أن يبدع (وهو المسمّى المبدع) ويخرج عن المألوف كي تسير بإسرافه الركبان، فعمد إلى ذبح ما يزيد عن المائة منها وشيّها، متسبّبا بذلك في مجزرة بيئية رهيبة.
وكان من الممكن أن تمر الأمور بغير ضجيج، كما مرّت مئات الزيجات الباذخة الحمقاء في المغرب، لولا أن الهواتف الذكية المتلصّصة التي أصبح بفضلها كل مواطن بسيط صحافيا هاويا، نشرت على الفضاء الأزرق مقاطع من هذا العرس الذي جرح بترفه المفرط مشاعر الشعب المغربي الذي يتلظى بلهيب غلاء المحروقات والموادّ الأولية. وفيما إقبال الشباب المغربي على الزواج وصل إلى أدنى مستوياته، بسبب البطالة وعدم استطاعة العزّاب الباءة. وتجاوزت نسبة الطلاق كل الخطوط الحمراء، بسبب الأزمة المادية الخانقة التي تكتوي بلهيبها معظم الأسر المغربية التي برح بها العوز بشكلٍ لم يسبق له مثيل منذ استقلال المغرب. فما معنى أن يلقي خير شباب البلاد بأنفسهم في عرض البحر طمعا في غدٍ أفضل، وهم يدركون أن حظّهم في العيش أقلّ من فرصهم في النجاة، في وقتٍ يحرق فيه بعضهم المليارات في ليلة واحدة لإرضاء نفسٍ مصابةٍ بجنون العظمة، وتحوم حول ثروتها شكوك وشبهات كثيرة؟!
تجاوزت نسبة الطلاق كل الخطوط الحمراء، بسبب الأزمة المادية الخانقة التي تكتوي بلهيبها معظم الأسر المغربية التي برح بها العوز بشكلٍ لم يسبق له مثيل منذ استقلال المغرب
العجيب المثير في هذه القضية أن من حرّكها ليست وزارة الداخلية أو أيٍّا من الأجهزة الرسمية، وإنما الجمعية المغربية لحماية المال العام، وهي منظمة غير حكومية، تعمل جاهدة للتصدّي لبؤر الفساد قصد فضحها والتشهير بها، فهل كانت الأعين المركزية ساهية غافلة إلى هذا الحد، وهي التي تعرف معدّل ما يتنفسه المواطن المغربي من حجم الأوكسجين في الدقيقة الواحدة، أم أن الظرفية المتأزّمة التي تمر منها البلاد، والمأزق الاقتصادي الذي يعرفه العالم، هو ما دفع في اتجاه التفاف هذه الفرصة لأجل امتصاص غضب الشارع المتزايد يوما بعد آخر؟
ومن له ذاكرة حية من المغاربة لن ينسى أبدا محطّات عديدة كهاته، تغوّل فيها الفساد وبلغ قمّة صولته، فبادرت الدولة مرغمةً كعادتها إلى إطفاء الحريق، وذلك بتقديم أكباش فداء إلى المحاكمة، حتى إذا ما تراجع الضغط وانتظمت دقّات قلب المجتمع، عادت حليمة إلى عادتها القديمة، وأطلق سراح المتهمين، بل ومنهم من عاد إلى شغل وظائف عليا، وكأن الأمر لم يكن سوى مسرحية للترفيه والتلهية. فقد انتفض الشعب المغربي سنة 1965 لما فاض البلد بالرشوة والزبونية والفساد والضغوط السلطوية لحالة الاستثناء التي صحّرت العمل السياسي في المغرب حينها، فحوكم وزراء وشخصيات سامية ورجال أعمال.
يحرق بعضهم المليارات في ليلة واحدة لإرضاء نفسٍ مصابةٍ بجنون العظمة
ثم توالت بانتظام واطراد قضايا فاضحة في استغلال النفوذ ونهب المال العام، منها على سبيل الاستئناس ملف سمسرة لشركة "بان أميركان" التي كانت ترمي إلى بناء سلسلة من الفنادق في المغرب، فطلبت مجموعة من الوزراء رشوة من الشركة الأميركية بواسطة سمسار اسمه عمر بن مسعود. والكل يعلم أنه كان من تداعيات تلك القضية المحاولة الانقلابية الأولى التي قادها رئيس الحرس الملكي ومدير البيت الملكي حينها الجنرال محمد المذبوح بمعيّة نائبه العقيد امحمد اعبابو مدير المدرسة العسكرية في بلدة أهرمومو (جنوبي فاس) وبقية القصة معروفة. وقد انشغل المغاربة آنئذ بمحاكمة المتورّطين في قضية الفساد التي كانت سببا فيما وقع، واعتبروها انطلاقة جدّية للقضاء المبرم على الفساد. ولكن هيهات هيهات، فقد تبيّن على امتداد السنوات المتلاحقة أن للفساد في المغرب جذورا عميقة ضاربة في القدم، وأن اجتثاثها يتطلب تعبئة كبيرة وتضحية مفرطة وإرادة سياسية قوية.
يبدو ذلك اليوم بعيد التحقيق، ما دامت تقارير المجلس الأعلى للحسابات تعجّ بالاختلالات والتجاوزات التي تبقى مجرّد إنشاءات طويلة مملّة تملأ بها مئات الصفحات التي يتم تخزينها في رفوف النسيان واللامبالاة، وما دامت جوقة من الذين تحوم حولهم الشبهات ممسكة بتلابيب مراكز القرار بعيونٍ لا تطرف ووجوه صفيقة لا تستحي من شيء. فهل سيكون مبديع ومن معه مجرّد كبش فداء، ويكون مصيره على شاكلة الذئب الذي ضبطه فلاح وهو يفترس حمَلا صغيرا في حظيرة غنمه، فلما هوى عليه بساطور قطع ذنَبه، هرب الذئب والفلاح يجري خلفه، حتى إذا ما يئس من اللحاق به، قال له صارخا: اذهب فأنت اليوم معروفٌ يا مبتور الذنَب.
ومنذ ذلك اليوم، تركّزت الأنظار على مفترس الحمَل الصغير، فما من خروف ضاع أو نعجة غابت أو تيس تلف إلا ونُسب للذئب مبتور الذنَب ... وهكذا تملص كل الذئاب من جرائمهم وارتاحوا، حين تم تعليق جميع ضحاياهم في عنق صاحبهم المغبون.