25 اغسطس 2024
ملكة جمال البعث التقدّمي
حدثت هذه الحكاية في سنة 1990. بطلُها رجلٌ يحمل الإجازة في الفلسفة من جامعة دمشق، ويعيش مع أسرته الصغيرة في مدينة إدلب. في تلك السنة، أجرى نظامُ حافظ الأسد تعديلاً طفيفاً على تعاطيه مع العملية الانتخابية الخاصة بمجلس الشعب. فقَبْلَ ذلك كانت الانتخابات تديرها القيادة القطرية لحزب البعث، والشُّعَب المخابراتية، وبعض الشخصيات المقرّبة من الجماعة الحاكمة، إضافة إلى السماسرة الذين يجيدون اللعب على الحبال. وهؤلاء يتفقون على أسماء محدّدة من المرشحين، ويسجلونها ضمن قائمة شهيرة عرفت باسم "قائمة الجبهة الوطنية التقدمية"، وفيها أكثرية من حزب البعث، والباقي توزّع على مرشحي أحزاب الجبهة، وهي أحزاب شيوعية وقومية "ناصرية" متنوعة، قَبلت بلعب دور "الوصيف" عند النظام البعثي، بعد أن أقنعت نفسها وقواعدها بأنه نظام "وطني" على الرغم من كل هذا الاستبداد. وكان الناس يعرفون أن قائمة الجبهة ناجحة، بالقوة، وبالتزوير. ولذلك لا يجرؤ أحد على الترشّح في مواجهتها غير المهابيل والمهووسين الذين يسقطون في المحصلة، من دون أن يكترث بهم أحد.
في دورة 1990، ضَخَّت الفروعُ المخابراتية في المحافظات بين الناس خبراً شبيهاً بالإشاعة، يقول إن نظام حافظ الأسد سيصبح ديمقراطياً، هكذا، فجأة، ومن دون مقدّمات، وأن قائمة الجبهة الوطنية التقدمية ستكون ناقصة، بقصد منحِ فرصةٍ لأناسٍ من مختلف فئات الشعب الأخرى بأن يرشّحوا أنفسهم وينجحوا، وهذا ما كان، إذ راح يتنافس على المقاعد الأخرى (غير الجَبْهَوِيّة) بعضُ أصحاب المهن الحرّة، والمزارعين، وحاملي شهادات جامعية، وسياسيين غير معارضين، وتجار عاديين، وتجار سلاح ومخدرات. صدّق بعضُ هؤلاء الإشاعة، وبعضهم الآخر يعرف أنها لعبة، ويريد الاستفادة منها، لذلك نزلوا إلى الساحات، مالئين الجدران بصورهم وبياناتهم، وفتحوا المضافات، ورشرشوا الأموال على الناخبين، فيما راحت الأجهزة المخابراتية تلعب لعبتها في إنجاح مَنْ تريد منهم، ولا سيما عندما تتأكّد من ولائه للطغمة الفاشستية الحاكمة، ومَنع بعضهم الآخر من النجاح، إذا اكتشفوا لديه بذرة معارضة، أو قلة ولاء للطغمة الفاشستية إياها.
هذا الوضع العام جعل بطل قصتنا الأستاذ عبد الله ينأى بنفسه عن العملية الانتخابية، وعندما نصحه بعضُ رفاقه بترشيح نفسه، قال لهم إنه يشعر بأن عقله ما زال في رأسه، وحينما يُجَنُّ فمؤكّد أنه سيرشح نفسه مع المرشحين المجانين.. وأضاف أنه لن يذهب، كذلك، إلى المركز الانتخابي للإدلاء بصوته، وسوف ينصح أفراد أسرته بألا يذهبوا، لأن الناجحين معروفون سلفاً، واللعبة مكشوفة، فإذا كانت الفروع الأمنية تريد أن تضحك على الناس فلتضحك على غيره، فهو ليس مضحكة.
الأستاذ عبد الله، هذا الرجل الذي يزعم أن عقله في قمة الرجحان والقوة والثبات، تَعَرَّضَ، في تلك السنة، لمشكلةٍ عائلية، واكتشف أن زوجته السيدة أميرة، وكان يصفها بأنها متوسطة الذكاء، أذكى منه بكثير.. ففي ذات ليلة، دخلت عليه المكتب، وكان هو يبحث عن مادة تاريخية لتكون شاهداً في أحد أبحاثه الفلسفية، وأعلمته بأن ابنتهما هيفاء تريد أن تسافر إلى دمشق للمشاركة في مسابقة ملكات جمال القطر العربي السوري. وسألته: ما رأيك؟
قال بحماس: طبعاً موافق. والله إن هذا خبر سار.
وراح يشرح لها أنه حينما تكون السياسة في بلدٍ من البلدان فاشلة، وممنوعة، وهناك استبدادٌ لفئة من الناس على باقي فئات الشعب، يكون الحل الوحيد أمام الإنسان الذكي، العاقل، أن ينأى بنفسه عن العمل السياسي، والانخراط في نشاطات أدبية وثقافية واجتماعية، ومن ضمن هذا، مثلاً، اشتراك ابنتهما هيفاء بمسابقة ملكات الجمال، وأن على الأسرة كلها أن تتضامن معها وتؤازرها.
فاجأته زوجته: برأيي أن عقلك أصغر من عقل ابنتك بكثير.
قال مندهشاً: ليش؟
قالت: لأن النتيجة معروفة من الآن، ستنجح ملكة الجمال المرشّحة من الجبهة الوطنية التقدّمية!
في دورة 1990، ضَخَّت الفروعُ المخابراتية في المحافظات بين الناس خبراً شبيهاً بالإشاعة، يقول إن نظام حافظ الأسد سيصبح ديمقراطياً، هكذا، فجأة، ومن دون مقدّمات، وأن قائمة الجبهة الوطنية التقدمية ستكون ناقصة، بقصد منحِ فرصةٍ لأناسٍ من مختلف فئات الشعب الأخرى بأن يرشّحوا أنفسهم وينجحوا، وهذا ما كان، إذ راح يتنافس على المقاعد الأخرى (غير الجَبْهَوِيّة) بعضُ أصحاب المهن الحرّة، والمزارعين، وحاملي شهادات جامعية، وسياسيين غير معارضين، وتجار عاديين، وتجار سلاح ومخدرات. صدّق بعضُ هؤلاء الإشاعة، وبعضهم الآخر يعرف أنها لعبة، ويريد الاستفادة منها، لذلك نزلوا إلى الساحات، مالئين الجدران بصورهم وبياناتهم، وفتحوا المضافات، ورشرشوا الأموال على الناخبين، فيما راحت الأجهزة المخابراتية تلعب لعبتها في إنجاح مَنْ تريد منهم، ولا سيما عندما تتأكّد من ولائه للطغمة الفاشستية الحاكمة، ومَنع بعضهم الآخر من النجاح، إذا اكتشفوا لديه بذرة معارضة، أو قلة ولاء للطغمة الفاشستية إياها.
هذا الوضع العام جعل بطل قصتنا الأستاذ عبد الله ينأى بنفسه عن العملية الانتخابية، وعندما نصحه بعضُ رفاقه بترشيح نفسه، قال لهم إنه يشعر بأن عقله ما زال في رأسه، وحينما يُجَنُّ فمؤكّد أنه سيرشح نفسه مع المرشحين المجانين.. وأضاف أنه لن يذهب، كذلك، إلى المركز الانتخابي للإدلاء بصوته، وسوف ينصح أفراد أسرته بألا يذهبوا، لأن الناجحين معروفون سلفاً، واللعبة مكشوفة، فإذا كانت الفروع الأمنية تريد أن تضحك على الناس فلتضحك على غيره، فهو ليس مضحكة.
الأستاذ عبد الله، هذا الرجل الذي يزعم أن عقله في قمة الرجحان والقوة والثبات، تَعَرَّضَ، في تلك السنة، لمشكلةٍ عائلية، واكتشف أن زوجته السيدة أميرة، وكان يصفها بأنها متوسطة الذكاء، أذكى منه بكثير.. ففي ذات ليلة، دخلت عليه المكتب، وكان هو يبحث عن مادة تاريخية لتكون شاهداً في أحد أبحاثه الفلسفية، وأعلمته بأن ابنتهما هيفاء تريد أن تسافر إلى دمشق للمشاركة في مسابقة ملكات جمال القطر العربي السوري. وسألته: ما رأيك؟
قال بحماس: طبعاً موافق. والله إن هذا خبر سار.
وراح يشرح لها أنه حينما تكون السياسة في بلدٍ من البلدان فاشلة، وممنوعة، وهناك استبدادٌ لفئة من الناس على باقي فئات الشعب، يكون الحل الوحيد أمام الإنسان الذكي، العاقل، أن ينأى بنفسه عن العمل السياسي، والانخراط في نشاطات أدبية وثقافية واجتماعية، ومن ضمن هذا، مثلاً، اشتراك ابنتهما هيفاء بمسابقة ملكات الجمال، وأن على الأسرة كلها أن تتضامن معها وتؤازرها.
فاجأته زوجته: برأيي أن عقلك أصغر من عقل ابنتك بكثير.
قال مندهشاً: ليش؟
قالت: لأن النتيجة معروفة من الآن، ستنجح ملكة الجمال المرشّحة من الجبهة الوطنية التقدّمية!