من هم أولئك المجهولون؟
حين نقف قليلاً عند أي خبر أو صورة في صفحة فيسبوك العامة، تنتبه الخوارزميات المتحفزة لذلك، ثم تبدأ بعرض كل ما يتعلق بالمحتوى الذي توقفنا عنده مما تمتلئ به صفحات العالم الأزرق، كلما خطر لنا تصفح "فيسبوك"، وكلنا، تقريباً، نمضي أوقاتاً طويلة من وقتنا ونحن نقلّب ونقرأ ونتابع ما يكتب وينشر في هذا العالم الافتراضي. استوقفتني منذ مدة صورة لفنانة عربية من نجمات الصف الأول، نشرتها صفحة باسم عام مثل (فن)، لفتني في الصورة أن منشئ الصفحة عدّل في الصورة وكبّرها مركّزاً على منطقة الصدر، بحيث تبدو الفنانة وكأنها تتقصّد إظهار المساحة المكشوفة من الفستان عند الصدر، بينما فستانها في الحقيقة عادي، ويمكن أن ترتديه أية سيدة في مناسبة ما. نشرت الصورة بلا تعليق سوى اسم الفنانة، لكن ما كتبه "الإخوة المتابعون" على الصورة حقّق الغاية من تعديلها ونشرها؛ شتائم من كل الأنواع تطاول الفنانة وتخوض في سمعتها واسمها، وآيات قرآنية تدعوها، ومن مثلها، إلى الهداية والتوبة، وفتاوى تحرّم الفن وتعِد أصحابه بنار جنهم، والكثير مما تجود به القريحة العفيفة للأخوة والأخوات المؤمنين والمؤمنات.
تقدّم الخوارزمية الرقمية لي صفحات عديدة شبيهة بصفحة "فن" بأسماء أخرى ساذجة، ولا تدلّ على شيء، لكنها تقدّم المحتوى نفسه: صور معدّلة لنجمات وفنانات عربيات، مع التركيز على مناطق مكشوفة من أجسادهن، من دون أي تعليق سوى اسم الفنانة المذيّلة صورتها بمئات الشتائم والخوض في السمعة والآيات القرآنية الداعية إلى الهداية والفتاوى التي تحرّم الفن، وتعد أصحابه بنار جهنم، يتركها معلقون إن خطر لك أن تدخل إلى صفحة أحدهم أو إحداهن لما وجدت شيئاً يمكنه أن يدلّ على هوياتهم؛ أسماؤهم مستعارة والصفحات الخاصة بهم متشابهة، لا تجد فيها أي شيء سوى صور لمناظر طبيعية وحكم وأمثال ساذجة وآيات قرآنية. كأن أصحاب هذه البروفايلات شخصٌ واحد، مثلما منشئ الصفحات التي تعرض صور الفنانات هو الشخص نفسه أو الجهة ذاتها.
من هم هؤلاء؟ أقصد الذين يعرضون محتوىً غايته شتم الفن والتقليل منه وشتم الفنانات على وجه الخصوص، عبر عرض صور مزيفة لفنانات عربيات؟ ومن هم أيضاً المعلقون الذين يؤدّون الغرض من الصورة، ويمرّون على كل الصور المشابهة تاركين الكلام نفسه والفتاوى نفسها والآيات القرآنية نفسها هنا وهناك، من دون أن يكون لأحدهم أية حيثية يمكن التعويل عليها في معرفة شيءٍ ما عن أوضاعهم، إلى أية طبقة اجتماعية ينتمون، إلى أية فئة عمرية، هل هم ذكور أم إناث، لا شيء على الإطلاق يدلّ عليهم مما يمكن التعويل عليه لفهم سياقات التفكير العربي وتوجهه.
والحال إن وسائل التواصل الاجتماعي قد أصبحت بمثابة المنصّات التي يستقي منها مهتمون كثيرون أفكارهم وإحصاءاتهم عن الواقع العربي ومساراته، وقد يكون هذا صحيحاً إلى حدٍّ ما، ذلك أن وسائل التواصل وزّعت عدالة وجودها على الجميع، وتحوّلت إلى منابر متاحة دائماً لعرض الأفكار والرؤى والتوجّهات مهما كان نوعها ومستواها.
ولكن أيضاً خلف هذا اليسر والسهولة في التعامل مع وسائل التواصل تكمن خطورة الاتكال عليها فقط في معرفة مسار المجتمعات والتعامل مع الظواهر التي تنتشر عبرها على أنها حقائق تدلّ على وعي الشعوب، وهي، في الواقع، ليست سوى محاولة لتوجيه الرأي العام نحو ما تريده فئةٌ ما قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية تملك مصلحة في تكريس صورة معينة/ نمطية عن المجتمع العربي.
بالعودة إلى الصفحات إياها، بما تحتويه من صور وتعليقات، سوف يبدو الأمر للمتصفّح العادي كما لو أن هناك قاعدة شعبية عربية عريضة وواسعة، رجعية ورافضة للفنون، وتشهر سيوف الجهاد في سبيل محاربة "الفساد الأخلاقي" الذي ينشره الفن والفنانات، تحديداً. وتساعد آلية الخوارزمية الرقمية على توجّهات مشابهة، عبر عرض المحتوى المشابه بشكل متواصل كلما تصفّح أحدنا محتوى ما. ولأن للتلصّص مساحة مهمة في ثقافتنا الجمعية، يتابع أغلبنا صفحات مشابهة أو يقف عندها. هكذا يتم استهدافنا جميعاً بعرض محتوى ما وعرض آلاف الآراء المطابقة للهدف من عرض المحتوى، فنكاد نكون متأكدين أن مجتمعاتنا رافضة للفنون ومتخلّفة ورجعية ولن ينفع معها أي تغيير، فـ"كما تكونوا يولّى عليكم". بينما الواقع ليس بهذا التطرّف الذي تظهره وسائل التواصل، ثمّة مساحةٌ لكل شيءٍ لدينا، وإلا لتوقفت شركات الإنتاج عن صناعة الدراما والسينما والأغنية منذ زمن طويل.