موتٌ مدفوع الثمن
حبس العالم أنفاسه خمسة أيام، حتى جاء الخبر اليقين عن تحطّم الغوّاصة تيتان، والتي خرجت في رحلة لمشاهدة حطام السفينة الغارقة قبل أكثر من مائة عام، والتي تعد أشهر سفينة غارقة، وهي "تيتانك"، ولكن الغوّاصة تيتان، والتي كان على متنها خمسة أشخاص فقط، قد تحطّمت على مقربة من حطام "تيتانك" ولم تحقق هدفها. ويبدو أن مقولة حطام قد خرج باحثاً عن حطام الأقرب لوصف ما حدث؛ فهناك تحذيراتٌ تعالت قبل أن تبدأ هذه الغوّاصة التجريبية رحلتها، ومن هذه التحذيرات أن الغوّاصة غير مصمّمة للغوص إلى عمق أربعة آلاف متر. ورغم ذلك، أصرّ ركّابها على ركوب الخطر والإبحار بها، بل أنهم دفعوا مبلغا كبيرا مقابل كل تذكرة مدفوعين بدوافع وظيفية ونفسية في أجسامهم وشخصياتهم حاول علماء النفس تحليلها.
إن كان التحليل الوظيفي لهذه المغامرة، المحفوفة بالمخاطر وغير المأمونة المخاطر، يفيد بأن ركاب الغوّاصة، بالتحديد، هم من الرجال الذين لديهم زيادة غير طبيعية في هرمونات التستوستيرون والأدرينالين والدوبامين، والتي تدفع الإنسان إلى ركوب الخطر، بل والشعور بالمتعة عند عيش لحظات الخطر، وهذه المشاعر يطلق عليها نزعة المغامرة، وإن كانت نزعة المغامرة التي تملّكت الرجال الخمسة الذين قاموا بالرحلة لم تفض إلى شيء، فلا يمكن أن نطلق حكما عاما بأن نزعة المغامرة التي تملكّت علماء ومغامرين كثيرين في الماضي وحتى اليوم هي السبب في ما وصلنا إليه من تقدّم. وهذا التقدم نتيجة للاكتشافات والمغامرات التي قام بها هؤلاء، فبعضهم قد وصل إلى الفضاء وبعضهم ركب البحر أيضا، واكتشف قارّات لم تكن معروفة مثلا مثل اكتشاف قارّة أميركا.
وعلينا أن نتذكّر أنه لولا نزعة المغامرة التي تتملّك الإنسان، وكذلك نزعة الاكتشاف الملحقة بنزعة المغامرة، لما ظهرت محاولات الإنسان الطيران مثل الطيور. ومن هنا، بدأت فكرة اختراع الطائرة كأعظم وسائل النقل وأسهلها. أما التحليل النفسي لهؤلاء المغامرين فيلقي بنا أمام اتهاماتٍ كثيرة، فبعضهم تعالى صوته باتهام الأثرياء بأن جعبتهم قد أصبحت فارغة على وجه الأرض، بعد أن اكتشفوا وخاضوا مغامرات كثيرة، وخبروا ملذات الحياة بفضل أموالهم، فقرّروا أن يخترقوا المحيط على سبيل التباهي بأموالهم، وبأن أحدا لن يستطيع أن يخوض مثل هذه المغامرة إلا بماله. وهذا ما يؤكّده المتحاملون على الأغنياء، بأن المغامرين هم من أثرياء العالم الذين وصل بهم الجنون إلى ابتداع فنونٍ للموت المدفوع الثمن.
قارنت أصوات أخرى بين الفقراء الذين يبيعون كل ما يملكون لكي يركبوا البحر، ويعبروا من بلاد الفقر والقهر مع أطفالهم، أملا في حياة كريمة، ولكنهم لا يصلون، لأن الوسيلة التي اختاروها بائسة لا تحقّق لهم الأمان في أثناء عبور البحر الظالم، فيلقون مصيرهم المحتوم، وحيث يقف العالم صامتا أمام موتهم المجاني، ولا يصبحون سوى أرقامٍ تضاف إلى قوائم الغرقى والمفقودين، ولكن الضجّة التي أثيرت حول فقدان الغوّاصة "تيتان"، ثم الإعلان عن تحطّمها، والمبالغ التي أنفقت في البحث، تثير في النفس الشفقة على الفقراء عموما، والذين يقضون غرقا في لجّة البحر الذي اقتحمه أثرياء لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، ولكن قانون الطبيعة كان عادلا مع الجميع. وربما كان هذا القانون غبيا أو مجنونا، وهو أن للبحر أو المحيط عالمه الخاص الغامض والمبهم. ويرى هذا القانون أن البشر يتحدّون الطبيعة حين يركبون الماء غير المخصّص لهم ويتركون يابستهم، وقلة من المحظوظين الذين يستطيعون سبر أغواره وتُكتب لهم النجاة لكي يعودوا ويتحدّثوا حول مواقد النار في بيوتهم الدافئة عن مغامرة في أعماقه.
وفي النهاية، أنت ترى أن مثل هذه المغامرة بلا أهداف سوى إضافة قصة جديدة يُحبّذ أن يطلق عليها "لعنة تيتانك"، ستتحوّل إلى أفلام تنتجها منصّات عالمية، وتدر أموالاً طائلة لسنوات مقبلة.