موت الكلام
يموتُ الكلام. بلى يموت. يمكن له أن يتحلّل مثل جثّة، أو أن يطفو مهترئاً كالأسماك الميّتة على أسطح المستنقعات. العالم مستنقعٌ آسنٌ مليءٌ بعفونة الكلمات البائتة، البائدة، والخطب التي نما على سطحها عشبُ الأيام . أجل، يمكن للكلام أن يتخشّب، أن يتحجّر في الحناجر والأفواه، متراكِماً طبقةًَ إثر طبقة، حتى الاختناق. باستطاعته أيضا أن يتفكّك، عنصراً عنصراً، حرفاً حرفاً، لكي يتذرّر في الهواء بقايا احتراق، جزيئات سوداء تتطايَر، غبار براكين تمطر رمادها على مشهدٍ محكومٍ بالتكرار. ويمكن للكلام أن يفقد الوزن، أن يهزل ويترقّق ويجفّ حتى الكسر، أو أن ينفلتَ ويجنّ قبل أن يلقي بنفسه من مرتفعٍ أو في نهر. بإمكانه أن يقاطع اللون، أن يلغيه، يتّشح بالسواد، بالعدم، فلا يعود يُعقل ولا يُميّز، ولا يعود يُفقَه أو يُقرَأ، ويصير أشبه بالوسخ، باللّطخة، وصمة، شيئاً أهلاً للمحو، لكنه لا يزول، يصير بقعة مقيمة كتلك التي تقول عنها ليدي ماكبث إنّ مساحيق العالم كلّه لن تقدر على محوها.
الدَّم، كلمة. هو بضعة أحرف، لا، في الحقيقة هو لا يحوي أكثر من حرفيْن. الطغيان مجرّد كلمةٍ أيضا. وكذلك الحرب. ثلاثة أحرف يمكن لو شئنا، أن نداعبها كقطٍّ أليف، أن نمسح على رأسها، نلاعبها، نستنطقها، ونعيد تركيبها. ح - ر - ب. ربح. رحب. بحر. حبر. أجل، بحر من الحبر. بحر من الدم... والكلام أوزانٌ. جذع شجرة، ومنها تتفرّع أغصانٌ وتمتدّ. من جذع شجرة القتل، يتفرّع قاتلٌ ومقتولٌ ومقتلةٌ وقتيل...
في مطبخي، أقف لأعدّ شيئاً للأكل. المعدة تصرُخ، تستجير أن يُسكت خواءها أيّ شيء. ورائي تصدح الشاشات، تتكاثر الأنباء متضاربةً متخاصمةً دونما هوادة. وفجأة غثيان، وأجدني أفرم وجوهاً، وأقشّر أجساداً، وأملّح جروحاً. ما هذا؟ يا إلهي، حتى يداي ملطّختان بالدم... الكلامُ يُقتَل أيضا، يُنازع، يلوك الألمَ والموتَ على معدةٍ فارغة، فيما ثعابين الخوف تلدغ المشاهدين في وجوههم، والسمّ ينتشر ويشلّ الأعضاء.
القتلى من الأطفال يتكاثرون، يطلعون من الأرض، ينزلون من السماء، يطوفون في الأجواء. عدد لا يحصى من الأطفال يسقطون كيفما اتفق. لا نرى سواهم، حفاة، عراة، بأعضاء مبتورة، بوجوه ممحوة الملامح لا تبرز فيها إلا العيون. أطفال لا يبكون. أطفال صامتون، صاغرون، ثمّة ما حوّلهم تماثيل، نزع الحياة من بين أسنانهم، وحنّطهم في اللحظة التي ستقيم في أعمارهم حتى موعد القيامة. من أين ينبت كلّ هؤلاء الأطفال كثيرين أكثر ممّا يمكن للكثرة أن تكون، أكثر ممّا يمكن للموت أن يحصُد، أكثر مما يحتمل البشر خسارتهم، مكفّنين ومصابين وناجين، معفّرين بتراب الهلع وصمت الصدمة التي لا يعرفون لها سبباً أو اسماً؟
الكلام انتهى. ينبغي لنا أن ندفنه مع أجساد أولئك الأبرياء. أن نضعه في أكفانهم، أو أن نلقيه في التراب الذي سيضمّ جثامينهم ونُهيل عليه ما استطعنا من ردمٍ وركام. لا حاجة لمراسم العزاء، لا حاجة للدموع التي ستجفّ بعد حين. لا حاجة بهم إلينا، يكفيهم أنّهم ابتعدوا، أفلتوا من الضجيج، من العنف والصراخ والفجيعة، يكفيهم أنّهم غادروا هذ العالم الفجّ، الجافً، المتصحّر، حيث لا خضرة، لا رحمة، ولا ألعاب.
ناموا، أيها الصغار، أنتم بالعشرات، بالمئات، بالآلاف، ستتجاور أجسادكم المنتهكة، وستجدون في الأرض ربّما مكاناً يؤويكم ويحميكم من ظلم السماء. وهناك، لا تركنوا سوى لما تبقّى من أحلامكم، لا تُصغوا للكلام الكاذب الغشّاش، الكلام الذي يدّعي ويُخاتل ويعدّ ويبرّر، إذ لا شيء في الكون يمكنُه أن يبرّر قتل الأطفال.