موت المؤلفة
أعاد مشهد مثير جرى قبل أيام، في حفل تسليم جائزة بلانيتا الأدبية الإسبانية نظرية موت المؤلف في الأعمال الإبداعية، إلى واجهة النقاش، وإنْ بطريقةٍ غير مباشرة... تقدّم في الحفل ثلاثة رجال مجهولين حتى تلك اللحظة إلى المنصّة، ليتسلموا تلك الجائزة التي تعتبر إحدى أرفع الجوائز الأدبية في العالم، والتي أعلن عن فوز كاتبة إسبانية تدّعى كارمن مولا، بها.
كانت الدهشة سيدة الموقف، بعدما اكتشف الحضور أنّ كارمن مولا، التي يفترض أنّها كتبت قصة وسيناريو الفيلم التاريخي "الوحش"، وتناولت فيه موضوع قتل الأطفال في مدريد في أثناء تفشّي وباء الكوليرا في إسبانيا عام 1834، ليست موجودة على الإطلاق.
لا توجد كاتبة بهذا الاسم، بل هي مجرّد شخصية متخيلة تقمّصها ثلاثة أصدقاء، في الأربعينيات والخمسينيات من أعمارهم قبل سنوات قليلة، ليكتبوا روايات وسيناريوهات أفلام بذلك الاسم. انطلت الخدعة الصغيرة - الكبيرة على الجميع تقريباً، بل هناك وسائل إعلام أجرت مقابلات صحافية مع الكاتبة التي اكتفت بنشر صورة غير واضحة المعالم لها في موقعها على النت، وكانت كلّ اللقاءات تجرى عبر البريد الإلكتروني، من دون أن يشكّ أحد بحقيقة شخصيتها، حتى فازت، أو فاز الأصدقاء الثلاثة الذين يكتبون باسمها طوال تلك السنوات بتلك الجائزة الكبيرة، والتي قيمتها المالية مليون يورو، فقرّروا عندها كشف السر، والإفصاح عن شخصية الكاتبة غير الموجودة فعلياً.
لقد تشظّت الكاتبة المتخيلة إذاً في ثلاثة كتاب رجال، خورخي دياز وأغوستين مارتينيز وأنطونيو ميرسيرو. لم يجدوا غضاضة في الأمر، ولم يعتبروه نوعا من الخديعة، فالأمر كما قال أحدهم: "مثل كلّ الأكاذيب التي نقولها، كارمن مولا ليست أستاذة جامعية. ونحن ثلاثة أصدقاء، قرّرنا يوماً ما قبل أربعة أعوام دمج موهبتنا في سرد قصة". وهكذا فقد اعتبروا الأمر مجرّد أسلوب، غيبوا فيه اسم الكاتب أو الكتّاب الحقيقيين لصالح اسم وهمي تحمله شخصية وهمية بدورها، وهو تعبيرٌ، كما يبدو ظاهريا، عن إيمانهم بنظرية موت المؤلف التي جادل فيها الناقد الفرنسي الكبير، رولان بارت، نهاية الستينيات، بأنّ الكاتب وكتابته غير مرتبطين. لكن على صعيد آخر وضمنياً، خالف الكتّاب الثلاثة تلك النظرية، لأنهم لو لم يروا أنّ الكاتب والكتابة غير مرتبطين على صعيد الرواج والانتشار، على الأقل، لما أقدموا على خدعتهم التسويقية تلك، ولما كشفوا، بكلّ بساطة، عندما رأوا أنّ في الكشف تتويجا لأسلوب التسويق واستجلاب النجاح للكتاب، لا للكتاب في هذه الحالة.
الغريب والأكثر إثارة أن معهد المرأة الإسباني كان قد أدرج فيلما كتبته كارمن مولا، أي الرجال الثلاثة، عنوانه "الفتاة"، في قائمةٍ تحتوي على عناوين الكتب والأفلام التي على النساء قراءتها ومشاهدتها للمساعدة في "فهم الواقع وتجارب النساء"! وهذا يدلّ على خطورة التجربة وحساسيتها أيضا، ولعلها تفسّر، ضمن أشياء أخرى، حالة الغضب التي سادت الوسط الأدبي في إسبانيا بعد تلك الحكاية، خصوصاً أنّ الرجال الثلاثة لم يقدّموا مبرّراً منطقياً لتلك الخدعة، ففي معظم الحكايات المشابهة في السابق كانت هناك أسبابٌ تتعلق بسلامة الكاتب الحقيقي أو حريته مثلاً. أما الحكاية الأخيرة فهي مجرّد لعبة تسويقية، كما يبدو، فلم يكن أصحابها بحاجةٍ إليها لأسبابٍ تتعلق بالإبداع أو بقيمته، أو بسلامتهم مثلاً، بقدر ما كانت الدعاية هي الغاية التي وصلوا إليها، والهدف الذي تحقق لهم، بعيداً عن نماذج نظرية رولان بارت الحقيقية ومعناها العميق.