موت ولا حياة
لو رأى أحدُهم ما فعلت بعد أول ليلة مرّت بنا تحت القصف في غزة، حيث كنتُ مع أفراد عائلتي نلوذ في الطابق الأرضي من البناية، وتركنا شقّتنا الصغيرة في الطوابق العليا، لأطلق علي لقب "امرأة غريبة الأطوار"، فبمجرّد أن انبلج الفجر، وشقّ خيط من الضوء السماء الملبدة بالظلمة وآلات الموت، كنت أصعد الدرج لهاثا نحو باب شقّتي الذي تركته مواربا، ودفعته بكتفي الواهن ودخلت.
كنت أقوم بترتيب أنحاء البيت وتنظيفه، وخصوصا غرفتي الصغيرة الضيقة، وكأني قد غبت عن البيت وعنها دهرا، وهكذا كنت أفعل، والدموع تنساب من عينيّ وتفر إلى أنفي، فأتمخّط كثيرا، ولا أحاول أن أستلّ منديلا ورقيا مثلا لأجفّف كل هذه الانهيارات أو السيول من فوق صفحة وجهي.
بعد وقت قصير، كنت ألهث على حافّة سريري، وأنا أدير وجهي في أنحاء الغرفة، وحيث لحق بي أولادي، فلم يلحظوا سوى لهاثي، وانسلّ كل واحد نحو سريره أملا في نوم مقتطع أو مسروق، فيما كنت أجيل وجهي، وأنقل عينيّ في أنحاء البيت مرّة، وفي أنحاء غرفتي مرّة ثانية، فجلوسي على حافّة السرير الضيق الملاصق للنافذة كان يتيح لي أن أتجوّل ببصري في أنحاء بيتٍ أضيق مما يتخيّل أي إنسانٍ بالنسبة لعائلة، ولكني كنت أشعر فيه بسعادة وراحة لسببٍ مهم ووجيه ومقنع، أنه يجمعني مع أولادي لا أكثر.
مرّت سنوات طويلة تخليت فيها عن الاكتناز، فلم أعد أحتفظ بأشياء كثيرة، ولا أمارس شغف أو متعة شراء أشياء وأدوات بالجملة، بحجّة أنني سوف أحتاجها ذات يوم، كما تفعل كل الأمهات، وأصبح كل ما أملكه يملأ حقيبة سفر متوسّطة الحجم، وقد وضعت فيها بعض الكتب التي أعتزّ بها، وبعض متعلقاتٍ يمكن أن نطلق عليها مسمّى ذكريات. وفي الحقيقة، هي ما تبقى من رائحة أيام جميلةٍ كألبومات الصور أو أحباء قد رحلوا مثل ساعة يدٍ تخصّ أمي وعدسة مكبّرة تخصّ أبي، ولكني أبدا لم أشأ أن أمتلك خزانة ملأى بالثياب، ولا طاولة تغصّ بأدوات الزينة التي تخصّصها النساء لعبوات كثيرة متشابهة، وبتّ أملك طاولة يرقد فوقها مشط وعلبة طلاء للوجه، لتخفي شحوبا معتادا أورثه لي التعب والأرق.
لم أشأ أن أتخيّل لو لحظة أن هناك كومة من الركام، وعاملاً يشعر بالضجر ويتصبب عرقا، ولكنه مجبرٌ على إزالة الكومة التي تغطّي نصف الرصيف، فيزيح ملابس علاها الغبار أو يلتقط فردة حذاءٍ لامرأة، ويلقيها في حاوية ضخمة، وهو متأكّد أنه لن يعثر على الفردة الثانية. ولم أشأ أن أتخيّل أن الأشياء التي اكتنزتُها بدافع الذكاء الأنثوي، واستغلالا لتخفيضات الأسعار حجّة ثانية للاكتناز قد أصبحت فوق كومة قبيحة خلفها قصف جنوني لبنايةٍ كنت أسكنها، فيما تقبع أشلائي في المستشفى القريب من مكان سكني. لذلك أصبحت لا أهتم إلا بما يفيد يومي وكأني على سفر، وكل ما أملكه هو بالفعل حقيبة سفر فيها ملابس شتوية وصيفية وملابس تصلح لتغير الفصول، عدا أدوات قليلة ومتعلقات تفيد الجنسين؛ لأني أشفقت أيضا حين اقتنيتها أن تكون متعلقاتٍ أنثوية يحمرّ خجلاً وجه العامل الذي سيزيل الركام حين تقع بين يديه.
لم أكن أدري متى تنتهي هذه الجولة من العدوان، لأتجوّل في شوارع لا تحمل سوى رائحة موتٍ أفاق من قيلولة، ولكني كنت مصرّة على ترتيب حقيبتي كما كنت أفعل. وفي الوقت نفسه، أزلت غبارا وهميا من فوق الطاولة بجوار سريري، ذلك القائم الخشبي الذي استلقيت فوقه في انتظار واستسلام، وأنا أتأمل النافذة المشرعة نحو السماء، وحيث أستعيد ذكرياتٍ مشابهة مضت، لم يتغير شيء فيها سوى أن صاحبتها قد كبرت، ومرّ بها قطار العمر، وتوجّهت مرّة أخيرة نحو الحقيبة، لأتأكّد من إحكام إغلاقها، وربتّ فوقها مثل أم تربّت فوق ظهر أطفالها لكي يطمئنوا، فنام الصغار وتحوّل جسد الأم المنهك أشلاء.