موجةُ استبداد جديدة
تستجدُّ الأسئلة بشأن الديمقراطية ومستقبلها في ضوء ما يجري في فرنسا والولايات المتحدة، فقد كان يُعتقد، إلى عهد قريب، أن الديمقراطية، في هذين البلدين وغيرهما من بلدان الغرب، أضحت بنياتٍ مؤسسيةً واجتماعيةً وثقافيةً متجذرةَ يصعب النيْل منها.
كشف الجدل الذي واكب مشروع '' قانون الأمن الشامل'' في فرنسا أزمة السياسة الفرنسية، أمام النزوع المتنامي لبعض أجهزة الدولة، وفي مقدمتها جهاز الأمن، نحو مقاربةٍ أكثر سلطويةً للفضاء العمومي. وإذا كانت الديمقراطية الفرنسية واحدةً من أعرق الديمقراطيات الغربية، فقد أكدت الأحداث أخيرا أن لا بديهيات نهائيةً ومكتملةً في السياسة. وما يُحسب مكسبا وحقّا قد يصبح، في لحظةٍ، محط تفاوضٍ أو تسويةٍ إذا ما طرأ تحوّلٌ على ميزان القوى. ومن هنا، نُدرك دلالة الشراسة التي قوبل بها هذا المشروع من المجتمع المدني الفرنسي الذي رأى فيه تعدّيا على قيم الحرية وحقوق الإنسان التي تنبني عليها الجمهورية الخامسة. وفي الوسع القول إن هذه الشراسة تختزل الخيط الرفيع الذي يغدو، أحيانا، فاصلا بين الديمقراطية والاستبداد. بمعنى أن هذا المشروع قد يكون محاولةً تقودها الدولة العميقة لجسِّ نبض المجتمع، ومعرفة مدى استعداده لقبول انتكاسةٍ ديمقراطيةٍ لا تستقي مبرّراتها، فقط، من الظرف الداخلي الحالي، بقدر ما تستقيها، كذلك، مما يشهده العالم من مدٍّ استبدادي واضح، نتيجة عوامل كثيرة يطول الخوض فيها.
في السياق ذاته، تقدّم تداعيات الاقتراع الرئاسي في الولايات المتحدة مثالا آخر على الأخطار التي تحيق بالديمقراطية الأميركية، بعد أن وجدت نفسها أول مرة أمام وضع غير مسبوق، في ظل رفض الرئيس المنتهية ولايته، دونالد ترامب، الاعتراف بهزيمته، واستخفافه بالإرث المؤسّسي والديمقراطي الأميركي. ما يؤشّر على أزمة عميقة تمر منها الديمقراطية الأميركية التي تقترن صورتها، بشكل لا يخلو من دلالة، بالنفوذ القوي للولايات المتحدة في العالم.
تُسائل الحالتان، الفرنسية والأميركية، حزمةَ بديهيات بشأن الديمقراطية، والأدوارِ التي تلعبها الظروف الإقليمية والدولية في تقويتها أو إضعافها، ومن ذلك صعودُ عقائد ومذاهب سياسية بعينها أو تراجعها، وتقلص مساحة تأثير النخب التقليدية. صحيحٌ أن الديمقراطيات الغربية محكومة ببنياتٍ وذهنياتٍ وأنماطِ وعيٍ وسلوكٍ، كما أنها خلاصة عقودٍ طويلةٍ من التدافع الاجتماعي والسياسي الذي وازته تسويات وتوافقات لم تتيسّر بسهولة. لكن ذلك لا يمنع من الإقرار بأن مياها كثيرة جرت وتجري تحت جسور هذه الديمقراطيات، منذ تفكك المعسكر الشرقي في نهاية الثمانينيات. وما صعود الشعبويات اليمينية الجديدة، المعادية للمهاجرين والأقليات، والتجريدُ المتدرجُ للطبقة الوسطى في الغرب من مكاسبها، والاستثمارُ في دعم أنظمة مستبدة وفاسدة لقاء مصالح الرأسمال الدولي العابر للحدود إلا عناوين فرعية لعنوانٍ رئيس يتمثل في عودة الرأسمالية، في طوْرها المتوحش، لاحتكار موارد السلطة والثروة بعد نحو قرن من هدنةٍ مرحليةٍ فرضها صعود المذاهب الاشتراكية على اختلاف أطيافها الفكرية.
إن تخوّفَ فئات واسعة في فرنسا، وبلدان غربية أخرى، من تقليص هامش الحريات وتغوّل أجهزة الأمن، وتوظيفِ صانع القرار قضايا الإرهاب والإسلاموفوبيا وكراهية الأجانب لفرض تدابير سلطوية، ربما يعكس طورا انتقاليا يذكر بأطروحة عالم السياسة الأميركي الراحل، صمويل هانتنغتون، بشأن موجات التحوّل نحو الديمقراطية، فإذا كانت بعض هذه الموجات قد حالفها الحظ، فإن موجاتٍ أخرى أخفقت وتحولت إلى انتكاساتٍ مدوية، سرعان ما اكتست شكل موجات استبدادٍ جديدة، ويشكّل ما حدث في بعض بلدان الربيع العربي بعد 2013 مثالا صارخا على ذلك. والشيء نفسه ينطبق، بصيغة أخرى، على ما يحدث في الولايات المتحدة، فهناك مخاوف متناميةٌ من أن يُفضي تهور ترامب وعدم تسليمه بهزيمته إلى ارتجاج في النظام السياسي الأميركي، يسمح لليمين المتطرّف، الذي يمثل مصالح النخبة البيضاء، بإعادة صياغة معادلة السلطة والثروة، بما لذلك من تداعياتٍ يصعب التكهن بها.
قد يكون سابقا لأوانه الحديث عن موجة استبداد جديدة، لكن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية المرتقبة لجائحة كورونا، وتراجع دور النخب السياسية والحزبية، وانكماش الطبقة الوسطى، ذلك كله يؤكد أن الديمقراطية تعيش أسوأ فتراتها منذ عقود.