نبَّاش القبور
يجب ألا يلقى هذا التصنيف لدينا قبولًا، أن مهنة نبَّاش القبور قد صُنِّفت واحدةً ضمن خمس من أهمِّ المهن المنقرضة، في النصف الأخير من القرن المنصرم. ولأن السينما والدراما التلفزيونية والروايات قد أولت اهتمامًا، وأفردت مكانًا لهذا العالم الغريب المُقبِض؛ فلا يمكن أن تصدّق أن هذه المهنة قد تنتهي، فالشر في العالم يتسع، والعقول التي تفكر باستغلال كلِّ كارثةٍ لا تزال تعمل، وتشحذ كلَّ إمكاناتها؛ لتفعل ذلك. وقد ورد خبر صغير، قبل مدَّة، ليست قصيرة، عن عامل نظافة، سرق قرطا ذهبيّا صغيرا، من أذني سيِّدة مسنَّة توفيِّت بسبب إصابتها بفيروس كورونا، في أحد المستشفيات. وقد تداعى إلى خاطري سرقة القبور، ونبشها، حين وصلتُ إلى هذا الخبر، فالسارق لا يبتعد كثيرًا عن نبَّاش القبور، فهو قد انتهك حُرمة الميت، وقد جُبلنا على تقديس الأمور المبهمة، فبعد أن يصبح الجسد الخالي من الروح، داخل القبر، يُعَدُّ من الأمور المبهمة التي تُحاط بهالةٍ من القُدسية، وأصبح متعارفًا لدى الجميع أن المسَّ بجثَّة إنسانٍ غادرته الحياة يشبه المسَّ بها حيًّا، بل إن ذلك أشدُّ ضراوة. ولذلك عمد الأعداء إلى تحطيم شواهد القبور، ونبشها، والتمثيل بجثث أصحابها، وبعثرة عظامهم، على سبيل الانتقام من الأحياء، والتقليل من شأنهم.
وغالبًا ما تكون بداية أيِّ غزو لمنطقة آمنة العدوان على مقابر الموتى، وقد فعل العبَّاسيون ذلك، حين نبشوا قبور خصومهم الأمويين؛ بغرض الانتقام منهم، ومن جرائمهم بحقِّ الهاشميِّين؛ ما يجعل نبش القبور يحمل طابعًا سياسيًّا أيديولوجيًّا. ولكن الأديان الثلاثة السماوية قد حرَّمته، وانتهجه تنظيم داعش، حين قام بتسوية القبور بالأرض، ونبشها. وفي بعض الأحيان، تبتعد عادة نبش القبور عن هدف الانتقام؛ لكي تبقى في وظيفتها الأصيلة والعتيدة، وهي سرقة متعلِّقات الموتى، وقد كانت هذه المهنة رائجة، في عصورٍ مضت، وحيث ظلَّت عادة دفن الموتى مع متعلِّقاتهم الثمينة، فيما حرَّم الإسلام ذلك، بل حرص على تجريد الميِّت من زينة الدنيا، والاكتفاء بلفِّه بقماش أبيض، يُعرَف بالكفن، وأصرَّ المثل الشعبي على أن هذا الكفن ليس له جيوب؛ دلالةً على أن الإنسان يخرج من الدنيا خالي الوفاض.
نعود إلى حادثة سرقة القرط الذهبي من أذني سيدة متوفاة، وعلينا أن نتخيّل ألم أهلها، حين علموا بالحادثة، خصوصا أن المتوفّين بسبب فيروس كورونا لا يُسلَّمون لأهاليهم لإجراء مراسم الدفن، وتبقى الحسرة في قلوبهم؛ بسبب حرمانهم من إلقاء نظرة الوداع عليهم. وبقدر الأسى والحزن والألم، هناك من ينتهز ذلك كلَّه، ويفكِّر بأن ينتهك حرمة ميِّت، ويسرق شيئًا من متعلقاته، مهما كان بخسًا، بل إن أحد نبّاشي القبور قال في اعترافاته، إنه كان يحوم في القرية، حول البيوت التي يكون فيها مريضٌ منتظِرًا لحظة الإعلان عن وفاته؛ لكي يتتبع الجنازة، وينتظر أن يصبح وحيدًا في قبره؛ فيسرق، مبتهجًا بغنيمته، قماش الكفن، وما يجده من حُلِيِّ، وحتى أسنان تمَّ تركيبها من الذهب والفضة، في حين يكون أهل الفقيد في حزنٍ مقيم.
وهكذا، فلكلِّ مصيبة من يستغلُّها لمصلحته، ولعل أسوأ ما في الأمر أن بعض القبور قد تتحوَّل مزارات دينية، ويجد فيها العامَّة والبسطاء واسطة للتقرُّب إلى الله. وكلما أوغلت الشعوب في فقرها وجدناها تقدِّس مثل هذه المقامات والأضرحة، بل يحمل بعضها أسماء، لا تمتُّ بصلةٍ لأصحابها، مثل مقام النبي موسى قرب أريحا، حيث يتبادر إلى الذهن أن النبيَّ نفسه قد دفن فيه. وقد جرى تدنيسه، قبل أيام، بحفل ماجن. والحقيقة أن صلاح الدين الأيوبي قد أقامه لأسبابٍ سياسيةٍ عسكرية بحتة، وليس تقرُّبًا، وعبادة. ويبدو أن الحديث عن القبور والمدافن، مع نهاية العام، ما هو إلا حصاد ما مرَّ بنا من وجعٍ لفقْدِ الأحبَّة، فلم نهنأ بتهانئ ومناسباتٍ سعيدة؛ بسبب تفشِّي وباء فيروس كورونا، خلال عامٍ مضى، وصرنا بلا تخطيط، نتحدَّث بلا مللٍ عن الموت والمدافن، كما هذا المقال.