نشوة الانهيار
الأسبوع الفائت، حذّرنا البنكُ الدولي أن لبنان يغرق في أزمةٍ اقتصاديةٍ تصنّفه ضمن أسوأ عشر أزماتٍ عالميةٍ عرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، مرجّحا أنه قد يبلغ "ربما إحدى أشدّ ثلاث أزمات" عرفها العالم في المدّة نفسها، هذا ناهيك عن تدحرج أكثر من نصف الشعب اللبناني إلى ما تحت خط الفقر.
ثمّة ما يدعو إلى الشعور بالنشوة في خبرٍ كهذا، وما يُدغدغ الكبرياءَ اللبنانيّ المغرمَ دوما بتبوّؤ المراتب الأولى، حتى في أكثر الأخبار سوءاً. فنحن، لمن لا يعرف، أصحاب أكبر صحن حمّص في العالم، ونحن العاصمة العربية الأولى التي دخلها الجيش الإسرائيلي عام 82، ونحن موضوع البرقية التي جالت العالم خلال الحرب الأهلية "الجرذان تجتاح بيروت: مقابل كل مواطن لبناني 5 جرذان على الأقل"، ونحن بلاد أجمل النساء وأكثرهن تحرّرا، ونحن أكثر الناس شطارةً وحنكةً، حتى قيل فينا إن صفة "لبناني" مهنة وليست جنسية، ونحن بلاد التعدّد وتسع عشرة طائفة يشدّ كلٌ منها في اتجاه، ونحن الذين صدّرنا الحرفَ إلى العالم، ونحن من افتتحنا أولى الحروب الأهلية في المنطقة، ونحن أوّل شعب تحيا أكثريّتُه خارج بلادها، ونحن من أكثر الدول مديونيةً وفسادا، وحكّامنا هم الأكثر جشعا ولا إنسانية، ونحن البلاد التي انفجر مرفأها ودُمّر نصفُ عاصمتها، في ما اعتُبر أكبر ثالث انفجارٍ في العام، من دون أن يرفّ لحكّامها وحكومتها جفن ..
القائمة تطول ولا سبيل هنا لحصرها، وهي إن اتخذت اليوم منحى معاكسا، هابطا لا صاعدا، فهي ما زالت تعبّر بصدق عن المكانة التي نشغلها والتي من غير المسموح ومهما كان، أن تهبط أو تتراجع، هي المرشّحة لمزيد من "النجاحات" و"الإنجازات" في المرحلة المقبلة، حيث تزداد نذائرُ الشؤم والتهديدات بعتمة مقبلة شاملة وانقطاع تام للكهرباء، بالتوقّف الكلّي للمستشفيات عن استقبال المرضى، وقد أُقفل حاليا معظمُ المختبرات لعدم توفّر المواد الضرورية لإجراء الفحوص والتحاليل، بخلوّ الصيدليات من معظم الأدوية الضرورية والأساسية، مثل المسكّنات وأدوية الضغط والسكّري وسواها من علاجات الأمراض الدارجة والكلاسيكية، بشحّ مخيفٍ في البنزين والمازوت، حيث تصبح زيارة محطّات الوقود أشبه بالذهاب زحفا إلى زاويةٍ بعيدةٍ لاستيفاء نذرٍ ما، بالارتفاع الجنوني لأسعار سلعٍ ستزداد بشكل هذياني، بعد رفع الدعم عنها، بفقد حليب الأطفال من الأسواق، بخسارة الليرة اللبنانية قيمتها بنحو 80 بالمائة، وبحجز المصارف ودائع الناس وحرمانهم من أموالٍ تعبوا لجنيها عمراً بحاله..
هه؟ هل ثمّة من يستطيع أن يُقارعنا في هذا كلّه؟ فليتقدّم إذاً وسنكون له بالمرصاد، وسنثبت بسهولة فائقة أن ليس من بقعة في العالم اجتمعت فيها كلُّ هذه المصائب والكوارث بالسرعة والتكدّس اللذين عرفناهما منذ 46 عاما. أجل، فليتقدّم أصحابُ الرساميل وتجّارُ الهيكل بكل ثقة، ولتوضع على رؤوسنا أغلى الرهانات، لأن من يختارنا حتما سيفوز، فنحن سوف نُصنَّف أوائلَ في ماراثون التقهقر والانحدار والانهيار والتراجع والسقوط، وأوائل في أعداد القتلة واللصوص والمجرمين الناجين من كل محاسبةٍ وحكم عدالة، وموئل أكبر مافيا سياسية عرفتها المنطقة على مدى قرون. أوائل في الذلّ والمهانة والفقر والجوع والبطالة والانحطاط، فيما ما زالوا يوهموننا بأن مقدرتنا على الاحتمال تفوق كل التوقعات، وطاقتنا على الحياة وحبّ الحياة لا تقارن، وأن لبنان مثل طير الفينيق سينفض عنه الرماد ليعود ويحلّق من جديد.
الجميع انفضّوا عنّا، قريبين وبعيدين، الكلّ تركوا مدينة الطاعون والجذام تغلق أبوابها لتغرق في دمائها وعفنها، وما خاطبهم ماضيها ولا عناهم مستقبلها. وحدنا، نحن التائهين في شقائنا وندمنا، ما زلنا نبحث عن خيوط تربطنا إلى جذورٍ طافيةٍ لن تلبث أن تقتلعها الرياح.