نعم... مُقصِّرون جدّاً
انتشر قبل أيّام مقطعٌ مصوَّرٌ مُؤثِّرٌ جدّاً لسيدة بحرينية اسمها سوسن كريمي، تتحدّث فيه عن تقصيرنا العربي تجاه غزّة في محنتها الراهنة، وعمّا يمكن أن نفعله شعوباً وأفراداً أيضاً... ولكنّنا مقصِّرون.
السيدة، وهي أستاذة جامعية تُدرِّس الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع في جامعة البحرين، قالت، في معرض حديثها الشائق، والحزين أيضاً، في المقطع الذي أثار تفاعلاً سريعاً واسعاً في منصّات التواصل الاجتماعي، قبل أيام، إننا "سندفع ضريبة عدم دفاعنا عن المظلومين في غزّة، وبقدر إيماننا ستكون الضريبة مضاعفة"، وأضافت مخاطبة كلّ مُسلِم: "أنت مُلزَم عقائدياً بالدفاع عن المظلوم. شباب غزّة لا يُضحّون بدمائهم فقط، إنّهم يعيدون لنا الوعي المُحمَّدِي. فأيّ مؤمنٍ بعدل الله في الآخرة عليه أن يساند المظلومين والمحرومين في غزّة".
ووصفت السيدة ما يحدُث في غزّة منذ "طوفان الأقصى" بأنّه "رسالة إلى البشرية كلها... الله يكون في عوننا نحن، لأنّهم في ساحة الشرف، في ساحة العزّة، ونحن في ساحة الذل... أولئك أهل عزّة، أهل شرف... بالدماء وبالرؤوس، وبالأطفال، وبشباب في عمر الزهور، يدافعون، ونحن بكروشنا". وفيما يتعلّق بتضحيات الفلسطينيين في غزّة، قالت: "هذه الدماء الزكية التي تُسفَك في أرض فلسطين، تُحرِّر الإنسانية".
وصل إليّ المقطع، المجتزأ من مقابلة أجرتها كريمي مع "بودكاست معتدل"، من صديقة بحرينية عبر "واتساب"، فسارعتُ إلى نشره في حسابي في "إكس"، إعجاباً به وتقديراً لصاحبته، ومساهمةً مني بإيصاله إلى أكبرر عدد ممكن من الناس، وخلال ساعات قليلة فقط، تجاوزت مشاهدات المقطع في حسابي وحده ما يزيد على نصف مليون مشاهدة، مع أنّه انتشر أيضاً في حسابات أخرى، مع تعليقات كثيرة تجاوزت الآلاف من مختلف الدول العربية والإسلامية، ومنها دول لها علاقات رسمية مع الكيان الصهيوني، وهو ما أتاح لي قراءة المشهد العربي الشعبي تجاه قضية فلسطين، وما يحدث في غزّة تحديداً من زاوية جديدة.
كان من الواضح أن نجاح المقطع وانتشاره السريع يعودان إلى أنّه عبّر ببساطة وبعفوية وبمباشرة عمّا في وجدان كثير من الشعوب العربية الصامتة، والتي لأسباب كثيرة لم تعد تستطيع الإفصاح عن رأيها بحرية في ما يجري في فلسطين، فوجدَت في هذا المقطع تعويضاً عمّا تَوَدُّ أن تقوله. لكنّه أيضاً، استدرج ردّات فعل فئة قليلة استفزّها المقطع، ليس لأنّه شكّل لها إحراجاً صريحاً، ووضعها في محكّ الضمير أمام ذاتها، فحاولت التقليل من أثره بمغالطات تتعلّق بشخصية السيّدة المتحدّثة، واسمها، وجنسيتها، ومذهبها أيضاً. وهذه المغالطات كلّها حُجَّة البليد في مسح "تختة" ضميره، عندما يجد نفسه في معضلة حقيقية.
الجميل في المقطع أنّه يشير إلى أهمّية الكلام، جهاداً حقيقياً وفاعلاً في سبيل قضيةٍ مُستحِقَّةٍ وعادلةٍ كالقضية الفلسطينية، وإلى قدرة الكلمة في تغيير القناعات وتوجيه الرأي العام وإثارة الهمم. نعم، نحن نستطيع، ما دمنا قادرين على الكلام، وعلى الكتابة، وعلى التعبير بالوسائل الممكنة كلّها، صنعَ الفارق في موازين القضيّة في الصعيد الإعلامي في الأقل. فهذا العدوان الصهيوني الذي خلّف وراءه، منذ ما يزيد على 300 يوم وحتّى هذه اللحظة، أكثر من 130 ألفَ شهيدٍ وجريحٍ فلسطيني، معظمهم من الأطفال والنساء، بالإضافة إلى ما يزيد على عشرة آلاف مفقود، وغير ذلك من تهجير وتدمير وتجويع، كارثةً كُبرى أقدم عليها الصهاينة بمساندة بعضنا للأسف، إن لم تكن مساندةً فعلية فبالصمت والتجاهل.
تحية للسيدة سوسن كريمي، ولكثيرات ولكثيرين ما زالوا مؤمنين بقوّة الكلمة سلاحاً في وجه العدوان. صحيح أنّنا مُقصِّرون في معركة غزّة، ولكنّنا في الأقلّ نشعر بهذا التقصير، ونحاول معالجته بقدر ما نعرف، ونقدر، ونستطيع.