نهاية "هنا لندن" وحنين الزوجات المهجورات
كنت أحبّ الاستماع إلى النشرة القضائية في الإذاعة الوطنية (المغربية). تسرد المذيعة أسماء رجالٍ عديدين تغيّبوا سنوات، من دون حسّ أو خبر. وأتساءل: هل تقرأ كلّ يوم لائحة جديدة من الأسماء، أو أنّها تكرّرها على مدار الأسبوع؟ فهو عدد كبير من الرّجال النّاشزين عن البيوت، الذين لن تجد الزّوجات ما يفعلنه في غيابهم. لم تُجرّب مقدّمة النّشرة تعبير "خرج ولم يعد"، بل ألّفت كلماتٍ أخرى لتشهد على التغيّب بلا خبر، أو الاختفاء الفُجائي... تعابيرُ كثيرة تُستعمل لوصف الغياب، الذي يقف شاهداً على الفقدان والهجر والنّسيان.
من بطن الغياب، يُمكن أن يعود أحدُهم فجأة، وفي يده بطيخةً من القصص الغريبة، التي لغرابتها يُصدّقها الجميع. يخترعون قصصاً عن الخطف الذي تمارسه عصابات من اللّصوص والباحثين عن الكنوز، والقراصنة البرّيين والبحريين. إذا كان الغائب بحّاراً، ربما يُضيف إلى اللائحة حوريةً خطفته إلى كهفها البارد، حيث كانت تُطعمه السّمك النيّئ. بهذه الأعذار، ينجو الرجال من آثار الغياب. وتندم النّساء على ما فعله الزمان بهن. ولا تأخذ إحداهن وقتاً لترى ماذا فعل الزمن بالعائدين.
خلال موجة الحزن على BBC، الإذاعة التي كبُر بعضنا، وآباؤنا جميعاً على أثيرها. كانت دقات "Big Ben" أهم ما يحدث في اليوم، إلى جانب جملة "هنا لندن". رغم أنّ لا أحد من الحزانى على الإذاعة يسمعها الآن، لكنهم يريدونها أن تعود. لماذا؟ لأنّهم يحبّون الماضي إلى درجة أنهم ينكرون الحاضر، فبعضنا لم يقبل بعد تعويض شرائط الكاسيت للأسطوانات والفونوغراف، وأقراص اللّيزر للشرائط، وUSB وقنوات "يوتيوب" للأقراص وأجهزة.DVD مثلهم مثقفّون عرب ما زالوا يكتبون عن "التقانة"، للتعبير عن هيمنة التكنولوجيا، والعوالم الافتراضية التي التهمت الكوكب. مع العلم أنّها من مصطلحات التسعينيات من القرن الماضي، حين كان الإنترنت بُعبعاً لم يصل بعد إلى كل دول المنطقة العربية. وحين كانت المحكمة تنشر أسماء الأزواج، كأنّهم بعد هذه السنين لم يدركوا ثمن الغياب.
ثلاثون سنة من الفارق، وهو عمر مهول بحساب العصر. وما زلنا نريد التمسّك بجلباب الماضي. نستند إلى ما فات، ونحن ننظُر بوَجل وامتعاض إلى المستقبل. فيما تحوّل العالم كلّه إلى مُنتج محتوى تواصلي، حتى أتفه الناس، صار لهم جمهور أكبر من جمهور إذاعة BBC. وهو ما أدركته القناة التي بدأت مرحلةً أخرى، وعلينا أن نمرّ نحن أيضاً للآتي. بدل أن نتمسّك بما فات، مثلما كانت النّشرة القضائية آخر ما تتمسّك به أسر كاملة، ليعود من ينوي العودة.
عدا تنبيه الأزواج الهاربين، كنت أسمع الحنين في اسم الرّجل الغائب، حين تنطقه المذيعة بعد اسم الزوجة، التي ربما لم ترفع الدعوة إلّا ليسمعها الحبيب ويدركه الحنين، بعدما أنهكها حتى نسيت هجرَه لها مع كومة من الأطفال الجائعين. تحوّلت "BBC" إلى الشبكة العنكبوتية، وصار لها أحبّاء آخرون، في يوتيوب وتيك توك وإنستغرام والذي منه. لم تعد تنظُر خلفها، إلى كائن عتيق اسمه الرّاديو، لم يمُت لكنه يحتضر ببطء. قلّة من عشاقه من لا يزال يضبط التردّد ليلاً على إذاعةٍ ما ليسمع ما يقوله المذيعون للسّهارى. إضافة إلى سوّاق التاكسي الذين يعشقون الإذاعات الشّعبوية التي يُثرثر فيها بلا نهاية أشخاصٌ يدّعون المعرفة في ما لا يفقهون.
باعتباري ممّن مرّوا على ميكروفون الإذاعة سنوات، قدّمت فيها كل ما يمكن لمذيع وصحافي إذاعي أن يفعل. أنتصر للإذاعة أبداً، وتلك الحميميّة التي لا مثيل لها مع المستمع. حين يتحدّث المذيع في تماهٍ مع الميكروفون، كأنه يكلّم المستمع شخصياً على الخط. صديق قريب، يستمع إليك. ولأنه الوحيد المتكلم، عليه أن يقول ما يهمّه هو، وألا يطيل عليه فيملّ أن تمنحه فسحة غنائية جديدة عليه.
لن يندثر الرّاديو، بل وجد له بيتاً آخر غير موجات FM. يكفي أن تدخل موقع الإذاعة لتسمع ما تحبّ من أصوات ومواضيع. البودكاست هو مستقبل الراديو، فلا تُعيدنا إلى موجات FM بعدما طلّقتنا. وحين لم نعد، رغم الحنين والانتظار الطّويل، آن لها أن ترتاح من أوجاع القلب.