نهاية التاريخ وأوهام النموذج الغربي
انتشرت، أخيراً، مع بداية السنة الجديدة، 2022، دراساتٌ أكاديمية تصرّ، كلّها، باعتبار أنّ نهاية التاريخ لن تكون بانتصار الليبرالية والديمقراطية، كما تنبأ فرنسيس فوكوياما، منذ ثلاثة عقود، بل بمراجعة منظومة الحريات التي تهددها قيم وأشكال للسلطة والحكم مقترحة من ممارسات دول يُوصف بعضُها بالمستبدة، على غرار الصين، روسيا أو بعض الدول الناشئة الأخرى التي نجحت في بناء نماذج اقتصادية، كما تمكنت من السيطرة على انتشار الجائحة، وتعود إلى الحياة الطبيعية بوتيرة أكثر سرعةً إلى العافية، على جميع الأصعدة.
تؤكد جلُّ تلك الدراسات أن الغرب لم يحسم معركة القيم، وأنّ نموذجه السياسي والاقتصادي مجرد خيار قائم من بين خيارات عدة للحكم وللسياسة العامة يمكن أن تُبرز جوانبها الإيجابية، كما يمكن أن تظهر لمجتمعات بأنّها غير مناسبة لبيئات أخرى غير الغرب، بل وفي الغرب، أيضاً، هناك مناسبات، ملحّة وضرورية، لإعادة النظر ومراجعة تلك القيم، بما يكفل اقتراح مقاربات أخرى للحكم وللسياسة العامة، وهو ما يوصلنا إلى التشكيك في نهاية التاريخ ويفتح الباب، على مصراعيه، لعوالم أخرى غير الغرب ناجحة، وتقترح نجاحها للآخرين على أنّه أفضل مقاربة مما يريده الغرب، وحاول فرضه عبر مغامرات الاستعمار والتسيد الاقتصادي، منذ قرون.
الغرب لم يحسم معركة القيم بعد، كما يبدو أنّ نموذجه السياسي والاقتصادي مجرد خيار قائم من بين خيارات عدة للحكم وللسياسة العامة
ينطلق الغرب في رؤيته لتقدير هذا الموقف المتضمن تراجع الحريات، وانهزام مقاربته قيمياً وسلطوياً، ثم إلزامية المراجعة للمنظومة، من خلال ثلاث زوايا رئيسة، أُولاها طبيعة الصراع بين النمو والكساد في إطار دورة اقتصادية رأسمالية لم يتوصل الغرب إلى حلها، باعتبارها معضلة مزمنة، دورية وصراعية، إلّا عبر آلية الحروب/ الصراعات والأزمات، على المستويين الدولي والإقليمي، وهو حلّ أضعف، لدى الشعوب الأخرى، خارج الدائرة الغربية، جيوسياسياً وجغرافياً، إدراك أفضلية النموذج الغربي على صعيدي القيم والحوكمة، على حد سواء، ودفعهم، بالتالي، إلى البحث عن نماذج نجاح تضمن لهم الاستقرار والسلام خارج ذلك الفكر الصراعي الذي تغذيه مراكز فكر لا تنفك تنشر تلك الدراسات وتشبعها مؤشراتٍ، بعضها موجه للكشف عن فشل الدولة وأخرى موجهة، أساساً، لتحديد مستوى الخطر على الغرب ومقاربات المواجهة الصلبة واللينة، وفق التعريف الجديد للقوة، في الحقل الدولي.
تشير الرؤية الأخرى إلى رفض الآخرين النموذج الغربي وأسبابه بمرجعية ذلك التفكير والمؤدي، بالنتيجة، إلى تصنيف الفضاء غير الغربي حيناً إرهابياً، وأحياناً أخرى، مستبداً، وإلباس ذلك اللبوس الأخلاقي، في حين أنّ الجميع على علم بأنّ الغرب إنّما يفعل ذلك في مسار بحثه عن حلول مؤقتة لإدارة الصراع داخل منظومته الرأسمالية، وهي حلولٌ عمّقت من رفض الآخرين الغرب وقيمه، وجعلتهم يعيدون النظر في بريق نموذجه والاستعاضة عنه بخيارات أخرى متاحة حيث النجاح، والرؤية غير المتعالية، والبعد عن الصراع.
من ناحية ثالثة، أدى رفض الآخرين نموذج الغرب إلى البحث عن مقارباتٍ أكثر فاعلية وأنجح لمشكلات حيوية اقتصادية وسياسية. والمشكلة أنّ بعض تلك النماذج أثبت فاعليته/نجاحه في بيئاتٍ مُحددة، وبآليات أصبحت مرجعاً لفضاءاتٍ واسعة من الدول، وأوجدت حالةً من الفزع لدى الغرب، وإرادة تحويل الصراع إلى مواجهةٍ مع أصل تلك النماذج ووصفها بأنّها خطر، مصدرة للاستبداد، بالمفهوم الغربي، وبعيدة عن معايير النموذج الغربي الذي تريد أن يكون هو المرجعية، ومن دونه يتجه العالم إلى صراع حضاري، وإلى مواجهة صفرية، حتماً.
أدى رفض الآخرين نموذج الغرب إلى البحث عن مقارباتٍ أكثر فاعلية وأنجح لمشكلات حيوية اقتصادية وسياسية
تنتهي تلك الرؤية بمضمون التقدير السالف إلى اعتبار أنّ العالم مقدمٌ على مواجهة شاملة مع تصعيد الأفكار التي تمجّد النموذج الغربي، وتعده مقصياً كلّ من لا يقبله بجميع تفاصيله، لتصنفه إما انعزالياً، كما يجري في فرنسا، أو معادياً للقيم الغربية ويجب أن يُحسب في خانة الخصم/ العدو وتُوقع عليه العقوبات بكلّ أنواعها. وهذا هو المشاهد، اليوم، مع روسيا والصين (دولياً) أو تركيا وإيران (إقليمياً) إذ تأخذ الحرب/ المواجهة أشكالاً عدة، منها ما هو من النوع الصلب (كما نراه، حاليا، على الحدود مع أوكرانيا)، ومنها ما هو من النوع الليّن (كما يجري في فيينا في الملف النووي، أو من خلال المضاربات على الليرة التركية وإرادة تهديم منجزات النموذج التركي).
ليس هناك تفكير لتمجيد هذه النماذج، فهي معيبة وقاصرة في كثير من جوانب ما تعرضه من مقاربة للحكومة أو إدارة الصراع، لكنّها تكرس، في الواقع، إمكانية الفكاك من النموذج الغربي واحتمالية التوجه نحو النمو والرخاء، بعيداً عمّا يراه الغرب الطريق الوحيد للوصول إلى ذلك، ودونه إما نهاية التاريخ أو الصراع الحضاري.
يمكن للآخر، وهو، هنا، كلّ من هو خارج الفضاء الجيوسياسي أو الجغرافي للغرب، اعتبار نفسه، من خلال منظومة الثقافة السياسية والحضارية، إضافة إلى التجارب التاريخية، صاحب نموذج للوصول إلى الرخاء والنمو. ولكن، باعتبار التركيبة الناتجة عن النماذج المعروضة للحوكمة، لا يمكن لذلك أن يجري من دون حسبان أن الإنسان هو محور كلّ التفكير ومركز التوجه إلى تبني أفكار من هنا وهناك، وصهرها مع الأصالة الناتجة عن الذات، كما لا يجري ذلك من دون معايير الحرية، المساواة والكرامة للكلّ، من دون إقصاء لأحد، وهي معايير تحملها النماذج جميعها، لكنّ بعضاً منها، خصوصاً الغرب، يرى نفسه الوصي على الجميع، وأنّ نموذجه هو الموصل إلى سبيل السعادة من دون غيره. وهنا المشكلة أو المواجهة/ الصراع، وفق الرؤية الغربية للعالم.
أدّى رفض الآخرين نموذج الغرب إلى البحث عن مقارباتٍ أنجح لمشكلات حيوية اقتصادية وسياسية
سبق للفيلسوف مالك بن نبي، اقتراح أنّ المشكلة تكمن في الانهزامية الداخلية، وأطلق على ذلك مُسمى "القابلية للاستعمار" واعتبار أنّ الانتصار عليها هو السبيل إلى اختيار النموذج الأليق والأقرب للوصول إلى النمو والرخاء، كما اقترح مقارباتٍ للخروج من دائرة التبعية والتهميش، وصولاً إلى دائرة الفعل الحضاري، أو ما يسميه بعضهم بالعروج الحضاري، لكنّ المشكلة، بالنسبة للكلّ، مرجعيتها أنّ من يحكم العالم يمكنه أن يدفعك إلى التفكير بنسق واحد. ويمكنه، وصولاً إلى ذلك، التلاعب بعقلك بآلياتٍ لم تكن موجودة في منظومة التفكير لدى مالك بن نبي، وتحتاج إلى إبداع وابتكار وسائل التغلب على الانهزامية، ثم اقتراح سُبُل/ مسارات للوصول إلى النمو والرخاء شاملة الخلفية الفكرية والمقاربة العملية، كليهما، في كلٍّ متكامل.
لكلّ أزمة منطلق. والمنطلق، هنا، تشخيص الوضع المتضمن قصور النموذج الغربي، ووجود مسارات خارج الدائرة الغربية لإبداع الحرية، والنمو والرخاء والتمكين لها، باعتبارها قيما عالمية. ويبقى البحث عن ذلك النموذج الناجح والفاعل. وهو، للعلم، موجود بتصور تشترك البشرية في تفاصيله بفعل التزاوج الحضاري، وليس لشعب/ حضارة اقتراح نموذجه واعتباره المخرج، بل الخلاص من الأزمات والصراعات. ويكفي، فقط، التفكير في الهدف، ثم تسطير مقاربات الوصول إلى تجسيده، ليس إلّا، وليس بعد ذلك من مخرج أو خلاص، البتة.