نوبة رجوع ... فليبق الجندي مجهولًا
هذا بطلٌ من خارج المنظومة، بل جاء عكس اتجاه كل المنظومات الداخلية والخارجية. أطلق موسيقى"نوبة صحيان"، فاستيقظ الجميع من الوهم ومن العار القومي الذي يتغطّون فيه منذ ثلاثة عقود، حتى ظننا أن لا خروج من الكهف.
هذا شهيد استثنائي نادر، يخجل جيشُه من بطولته وبسالته، ولا يعزف "نوبة رجوع" لحظة دفن جثمانه، بل إنه لم يهتم باسترداد جثمانه من الأصل، ولم يعبأ بإعلان اسمه وهويته، لكن الأمة كلها عزفت له لحن نوبة الرجوع، واعتبرته ولدَها الذي طرق على باب الهزيمة الشاملة فانفتح على نهار ساطع.
من الأفضل ألا يعلنوا اسم الشهيد، بطل عملية الحدود التي نفّذها وحده، ضدّ العدو، وضدّ أصدقاء العدو وحلفائه الذين راحوا يعتذرون ويتأسّفون ويقدّمون التعازي الحارّة في قتلى الاحتلال، من دون المرور على اسم البطل، فكيف يمنحونه وسام البطولة وهو الذي سدّد رصاصاته عليهم وعلى منظومتهم واختيارهم الاستراتيجي، قبل أن يصوّبها على العدو!
يرفضون اعتباره بطلًا، لأنهم يكرهون البطولات الحقيقية، ويتوارون منها خوفًا ورعبًا إن أقدم عليها فردٌ قرّر التمرّد على السياق العام كله، مستجيبًا للفطرة السليمة في اللحظة الخاطفة التي توهجت فيها، فكان الحل، كالعادة، أنه تصرّف خاطئ من فرد في أثناء مطاردة مهرّبي مخدرات، فيما تنطق كل الوقائع بأنها عملية مقاومة فردية تلقّن النائمين والغافلين والتائهين دروسًا بسيطة في الجغرافيا والتاريخ والأخلاق والهوية الوطنية والقومية.
لن تسكت تلك الأصوات الناعقة هنا وهناك تشكّك في الجوهر الأخلاقي للعملية كلها، بل تشكّك في وقوع الحدث أصلًا، فالقصة كلها تغريد خارج السرب وخروج على نواميس المرحلة، إذ لا يستطيع المصابون بلوثة الخلط بين الفرد والمنظومة أن يتصوّروا أن مجندًا مصريًا شابًا يكسر سياقًا عامًا صار يفرض على الجنود السهر على حماية تدفّق الغاز الذي تصدّره إسرائيل إلى العالم عبر الأراضي المصرية، وتأمين حفلات قطعان المستوطنين فوق رمال سيناء وتحت سفح الهرم، وفي فنادق القاهرة، لا يستطيعون إدراك أن فتًى قرّر أن يفرغ خزنة ذخيرته على هذا العار.
حسنًا، دعهم في الهلاوس واستمتع ببسالة ردّة الفعل التي لا تقل جمالًا عن الفعل نفسه، عملًا على الأرض كان أم دراما مصنوعة، ففي المحصّلة نحن أمام لحظةٍ مشحونةٍ بالمعاني الرائعة والإشارات البديعة، تنطق بحقائق كادت تطمسها وقاحة الواقع: أولى الإشارات أن هناك أمة عربية استبدّ بها الحنين إلى مصر الحقيقية التي يمثلها أصدق تمثيل، ويعبر عنها أبلغ تعبير ذلك المجهول الذي اجترح هذه البطولة، فكان ما كان من التعبير عن الشوق الذي يسكن وجدان كل مواطن عربي أصيل لمصر العربية شقيقة فلسطين، لا شريكة إسرائيل.
ثانية الإشارات أن مصر(الشعب) تتضوّر جوعًا إلى أبطال حقيقيين، يعدّلون لها البوصلة ويصحّحون المسار المعوج، وقبل ذلك تثبت أن كل هذه العقود والأعوام، بكل ما فيها من تدمير مدروس لمناهج التعليم واستهداف الوعي العام بأسلحة جرثومية فتاكة، لم تنجح في حذف اسم فلسطين من العقول والقلوب وفرض التطبيع عقيدةً وطنية جديدة.
والوضع كذلك، إن أي رواية رسمية تصدُر عن الجانبين، الصديقين، سيستقبلها الناس بالسخرية وعدم التصديق، ذلك أن الطرفين على استعداد للقبول بأي شيء إلا أن يقال إن شابًا مصريًا رفع الملاءة فجأة عن فراش التطبيع. لذا لا تستبعد منهما أي شيء من حواديت الخلل العقلي إلى أساطير الانتماء للدواعش، والأخيرة لا سند لها من الواقع أو التاريخ، إذ لم يثبت أن الدواعش وجّهوا فوّهات مدافعهم يومًا صوب العدو الذي يحتل فلسطين، بل لا يقتلون إلا الجنود البسطاء والمواطنين العزّل.
مرّة أخرى، نحن بصدد بطولة نفضت طبقات من الغبار المتراكم فوق الذاكرة الوطنية، فتألقت المعاني وتعرّفت الذات على ذاتها، وانفتحت كل أبواب الحنين من أول طرقةٍ خفيفة من بطل مجهول أيقظنا ورحل، من دون أن يترُك لنا اسمه.