نوري المالكي وعقدة الموصل
يحفل تاريخ العراق، بأشهره وأيامه، بعديد من الأحداث التي حفرت تفاصيلها عميقاً في ذاكرة العراقيين، إلّا أنّ شهر يونيو/ حزيران استطاع أن يتسلّل من بين تلك التواريخ كلّها، المترعة بالأحداث، ليجد لنفسه مكاناً بينها أحدَ أكثر الأحداث كارثية على هذا البلد، ربّما بعد إبريل/ نيسان، الذي شهد سقوط العاصمة بغداد في يد قوّات التحالف في عام 2003.
كان يونيو 2014 مختلفاً عن سواه من حيث الحوادث والتواريخ المُهمّة في تاريخ العراق، ففي العاشر منه كان العراق على موعد مع حدث فتح الباب واسعاً أمام تداعيات كبيرة، لم تقتصر عليه فحسب، وإنّما على المنطقة برمّتها، وربّما، حتّى على العالم، فلقد كان على موعد مع سقوط مدينة الموصل بطريقة دراماتيكية على يد تنظيم الدولة الإسلامية، أو ما عُرف لاحقا بتنظيم داعش.
كان في الموصل عند دخول التنظيم قرابة 60 ألف جندي وشرطي من مختلف الصنوف القتالية والأمنية، تبخّروا في ساعات
بدأت القصة وكأنّها جزء من فيلم خيالي لا يُصدّق. مجموعة من عناصر التنظيم، تشير التقديرات إلى أنّ عددهم قد لا يتجاوز 800 مقاتل، تمكّنوا في العاشر من يونيو من فرض سيطرتهم على كامل الموصل، وعندما نقول الموصل، فإنّنا نتحدث عن مدينة مساحتها نحو 180 كيلومتراً مربعاً، ويسكنها قرابة ثلاثة ملايين شخص، وهي ثاني أكبر مدن العراق بعد بغداد من حيث التعداد السكّاني، وكان فيها عند دخول التنظيم قرابة 60 ألف جندي وشرطي من مختلف الصنوف القتالية والأمنية، تبخّروا في ساعات، ولم تشهد المدينة أيّ قتال فعلي بين تلك القوات وعناصر التنظيم، ما خلا بعض الاشتباكات التي ما برحت أن هدأت مع انسحاب القوات النظامية.
حدث سيكون له ما بعده، فلقد تداعى عناصر التنظيم، بعد ذلك، من سورية ومن صحراء الموصل، حيث كانوا يتمركزون، لينطلقوا في عملية سيطرة واستحواذ على مزيد من المدن والمناطق، حتّى خرجت خلاياهم النائمة من مناطق محاذية للعاصمة بغداد وهدّدتها، في حين كان دخول الموصل بداية لمرحلة سيطرة على مساحات واسعة من العراق في عملية انهيار شبه تام للمنظومة العسكرية العراقية، التي أعدّتها الولايات المتّحدة عقب غزو العراق، وصرفت عليها مليارات الدولارات، بطريقة لا تزال ألغازها غير معروفة تماما. خلصت لجنة برلمانية عراقية، عقب ثمانية أشهر من احتلال الموصل، إلى أنّ المسؤولية تقع على عاتق رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي، مع 35 مسؤولاً آخرين، غير أنّ تقرير تلك اللجنة لم يترتّب عليه أيّ شيء، فلم يُعتقل أيّ مسؤول ممن جاء ذكرهم في التحقيقات وحُمّلوا مسؤولية سقوط المدينة.
قبل أيام، وفي الذكرى العاشرة لاحتلال الموصل على يد عناصر "داعش"، خرج فخري كريم، رئيس تحرير صحيفة المدى العراقية، والسياسي العراقي البارز في صفوف معارضة ما قبل 2003، والمستشار الأسبق لرئيس الجمهورية الراحل جلال الطالباني، ليدلي بتصريحات مثيرة بشأن ما يمكن وصفه بـ"عقدة الموصل" بالنسبة إلى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. ينقل كريم عن الأخير قوله، في حضور الرئيس طالباني قبل سقوط المدينة: "يجب أن نتعاون ونقرّب الموصل من الإقليم (كردستان) قدر الإمكان لأنّها بؤرة للإرهاب والقوميين والبعثيين، وهم سكّين في خاصرتنا"، ويتابع المالكي موجّها كلامه إلى فخري كريم، في الجلسة ذاتها،: "هؤلاء بعثيون وقوميون، ومع شديد الأسف، سُنّة".
شكّلت الموصل بالنسبة إلى المالكي سكّينة في خاصرة مشروعه السياسي المبني على أسس طائفية
هكذا كان المالكي ينظر إلى الموصل، وهو لمن لا يعرف تاريخه الوحيد الذي اختير لدورتين رئيساً للحكومة، فلقد جرى التوافق على الرجل أميركيا في عام 2006، ودشّن في دورته الأولى ما عُرفت بـ"صولة الفرسان"، التي قاد فيها جهداً عسكريا بدعم أميركي لضرب مليشيا جيش المهدي التابعة لمقتدى الصدر، وهو الذي زار الولايات المتّحدة في عهد الرئيس باراك أوباما، وطالبه بزيادة عدد القوّات الأميركية في العراق. وبعد انتخابات 2010، ورغم فوز القائمة العراقية بزعامة إياد علاوي بها، نجح بعد عشرة أشهر من التسويف والمماطلة بأن يحظى بتوافق أميركي إيراني أبقاه في كرسي رئاسة الحكومة، وبعدها، دشّن عهداً مختلفاً، عندما حوّل جهة استهدافه إلى المناطق "السنّية"، ومنها مدينة الموصل.
أكثر من ذلك، كشف تقرير صادر عن المركز العالمي للدراسات التنموية، ومقرّه لندن، اختفاء نحو 120 مليار دولار من فائض موازنات العراق بين 2006 – 2014، فترة رئاسة المالكي الحكومة، وفي عهده، أيضاً، قُتل آلاف من العراقيين من شباب المدن المنتفضة في كركوك والفلّوجة والرمادي والموصل وسامرّاء، بيد القوات الأمنية، وغُيّب مثلهم وزج في السجون آخرون، بتهم ملفّقة وبدعاوٍ كيدية.
لقد شكّلت الموصل بالنسبة إلى المالكي سكّينة في خاصرة مشروعه السياسي المبني على أسس طائفية، فهو كان يتعامل عقب 2010 مع العراق على أنّه عراق مشكّل على أسس طائفية، ولم يرَ فيه أكثر من هذا التشكيل. ومن هنا، بدأت مرحلة التمهيد لدخول عناصر التنظيم إلى الموصل، إذ تشير كلّ التحقيقات إلى أنّ الانسحاب من المدينة كان بناءً على أوامر عليا صدرت من المالكي نفسه، فهو كان يمنّي النفس بالتخلّص من المدينة التي كان يعتبرها "سنية – قومية – بعثية".
العملية السياسية في ظلّ وجود شخوصها، الذين شكّلوا نواتها عقب الغزو الأميركي في 2003، مترهّلة فاسدة بُنيت على أسس إقصائية وطائفية ومصلحية ضيّقة
اليوم، وبعد عشر سنوات من سقوط الموصل بيد التنظيم، وما تبع ذلك من قتل وتدمير وتهجير للمدينة وسكّانها، ورغم استعادتها من التنظيم بعد قرابة ثلاثة أعوام ونصف العام، ما زالت الموصل تبحث عن القصاص من كلّ الذين دمّروها، وقد سلّط عليها المالكي قادة طائفيين، ساموا المدينة وأهلها سوء العذاب، وكأنّه كان يبحث، حتّى قبل سقوطها، عن تفريغ كراهيته المدينة وأهلها بشتّى الطرائق. الغريب أنّه ورغم كلّ التحقيقات التي حمّلته المسؤولية، ورغم ما تحدّث به فخري كريم، ومن قبله عديدون مُقرّبون من دائرة العملية السياسية، إلّا أنّه ليس لم يحاسب على جريمته فقط، وإنّما نجح خلال دورتَين من رئاسته الحكومة في تشكيل دولة عميقة، ما زالت تتحكّم بمفاصل العملية السياسية.
العملية السياسية في ظلّ وجود شخوصها، الذين شكّلوا نواتها عقب الغزو الأميركي في 2003، مترهّلة فاسدة، بُنيت على أسس إقصائية وطائفية ومصلحية ضيّقة، وهي، اليوم، وإن حاول القائمون عليها تقديمها أنّها تتعافى، إلّا أنّ عدم القصاص من ساسة دمّروا العراق أكثر من 20 عاماً سيُبقي هذا البلد في منظومة الدول الفاشلة حتّى حين.