هذا أبي
"أنا أحبّ الموسيقى والرياضة والحيوانات، مرحباً بكم". هكذا كتبتُ في خانة تعريفي المختصرة على "فيسبوك"، ولكنني لم أكتب أنني أحبّ أبي، هذا الحبّ الساهر لا يُكتب عنه، يا رفاق، لا يمكن أن أمسك بهاتفي الذكي، الذي أتشاغل به في الدقائق القليلة التي تخلو فيه قاعة قسم الطوارئ في المشفى، لكي أردّ على تساؤل مارك اللعين، حين يضع أمامك سؤالاً غبياً: بمَ تفكّر؟، فلا يمكن أن أكتب: أنا أحبّ أبي، أو أنا أتمنّى وأدعو الربّ أن يبقى أبي في حياتي إلى الأبد، لست غبيّاً ولا ساذجاً، لكي أكتب عن مشاعر مسلّمٍ بها، أو عن أمنياتٍ لا يمكن التنازل عنها. ولذلك أنا أتماشى مع سذاجة السؤال وركاكة التعبير أو الترجمة. وأكتب: أنا أحبّ العصافير مثلاً، ولكني في قلبي أكتب اسم أبي، وفي روحي تتمدّد صورة أبي، وفي كل حنايا قلبي يتربّع صوت أبي خالداً.
لفرط حبّي له، لم أكن أتحدّث عن قدره، ولا اتساعه ولا مداه، هكذا مثلما أن العالم كله يعرف أن البحر واسعٌ وعريضٌ وكثير الموج ولا أمان له، فأنا كنت أعرف أن الحديث عن أبي سيكون عن كل الآباء وزيادة، وعن كل الباذلين وزيادة، وعن كل المضحّين وزيادة، وعن كل المحتوين والمنصتين واللاهثين لساناً في الدعاء سرّاً وعلانية. ولذلك يكفي أن أقول إنني تركت أبي خلفي في مكان عمله، وجئتُ هنا إلى عملي. يكفي أن أقول ذلك أو أشعر بذلك فيشتدّ ظهري ويصلب ويسند، فهناك في بقعة من هذا العالم المهترئ والمتداعي هناك ذلك النور المشعّ الذي لا يجعلك تقع، تظنّه نوراً يضيء، ولكنه أكثر من ذلك، وتظنّه سنداً وظهراً، ولكنه أكثر من ذلك وأوسع من كل فظاظة المفردات.
اليوم مثل كل يوم، يعجّ قسم الطوارئ بالمرضى والمصابين بحوادث في المنازل، فهناك من كان يصلح أنبوب الغاز فانفجر في وجهه. وهناك من كان يحاول أن يدقّ مسماراً للوحة، فوقع عن الكرسي، حيث اختلّ توازُنه، فجيء به معصوب الرأس ونازفه، وهناك من فاجأته أزمةٌ قلبيةٌ لأنه نسي أن يتناول دواء مرضه المزمن. أما النساء المصابات بحروق الطبخ، فحدّث ولا حرج، وأما الأطفال الذين يبتلعون أشياء غريبة، ويدسّون في فتحات رؤوسهم من فم وأذنين وأنف أشياء أكثر غرابة، فهؤلاء يجب أن تتوقع أنهم ينسلّون هكذا من فجوةٍ تفضي إلى العالم، ولا تعرف كيف تغلق مكان تسلّلهم لكي توقفه، فيأتون باكين ويعودون من قسم الطوارئ إلى بيوتهم معصوبي الرؤوس أو الأيدي، وحولهم الحلوى والهدايا والقطع النقدية الصغيرة التي اشترى بها الكبار صبرهم على أدوات إسعافنا الأولية.
ولكن اليوم كان مختلفاً، حيث انقلبت القاعدة أو انهارت وتلاشت. اليوم جاء المصابون بسبب الرصاص الذي ينطلق ولا يعرف هدفاً، فقط يمارس هوايته القميئة، وهي الانطلاق نحو أجساد البشر، وحيث تنفجر الدماء، ويتخبّط المصابون بين إصابات بسيطة ومتوسّطة وخطيرة. ولذلك، كانت اليوم أمامي حالتان خطيرتان. توقف قلب أحدهما، وبدأت أمارس عملي بقوة وبآلية، لكي أجري إنعاشاً للقلب من دون النظر في وجه المصاب، فلم يكن هناك أي وقتٍ لكي أفعل أو أنني لا أجد ضرورة لكي أفعل، فقط يجب أن يعاود هذا العضو عملَه، لكي تعود الحياة لصاحبه، ولكنه توقف فاستدعيت مع زميلي جرّاح القلب على عجل، فشقّ صدر المصاب في محاولة لإنقاذه، ولكن الجرّاح أعلن وفاته. وهنا كان عليّ أن أرفع ذراعيّ المنهكتين عن جسده، وأنظر إلى وجهه وأصرخ بكل ما أوتيت من وجع: هذا أبي ...
الآن أقول لكم أنا أحبّ الموسيقى والرياضة والحيوانات، وأحبّ أبي أكثر، أحبّ ذلك الذي حاولت وفشلت، وهو الذي حاول وثابر وجاهد ولم يفشل، وجعلني أنا هذا المكلوم الموجوع الباقي على حبّه، والوفيّ له وللوطن، حتى نلتقي، حيث لا رصاص ينطلق نحو أجساد البشر.
عن قصة المُسعف الفلسطيني إلياس عبد الهادي أشقر.