هذا التحامل الأوروبي على السعودية
تقود دوائر كروية وإعلامية أوروبية حملة على السعودية، على خلفية صفقاتٍ أبرمتها أندية سعودية مع نجوم في كرة القدم، ضمن مشروع لا يهدف فقط إلى النهوض بكرة القدم وتطويرها، بقدر ما يندرج كذلك ضمن سعي المملكة إلى رسم صورة جديدة لها، تُمثل كرة القدم إحدى واجهاتها الرئيسة.
تُذكّر هذه الحملة بما سبق أن تعرّضت له دولة قطر، في غضون تنظيمها كأس العالم نهاية السنة المنصرمة، على خلفية مزايداتٍ بشأن حقوق العمّال والمهاجرين فيها. كما تُذكّر أيضا بما تعرّض له المنتخب المغربي من تبخيس لإنجازاته حين هزم منتخباتٍ أوروبيةً كبيرة بحجم بلجيكا وإسبانيا والبرتغال، ونجح في الوصول إلى نصف النهائي واحتلال المركز الرابع.
الحملة الحالية، التي تقوها مراكز قوة في الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (ويفا)، ودوائر قريبة من الاتحاد الدولي (فيفا) وصحافيون رياضيون معروفون، انصبّت، في البداية، على تنامي النفوذ السعودي في سوق انتقالات اللاعبين، سيما بعد نجاح فريق النصر في ضم النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو إلى صفوفه. لكن هذه الحملة سرعان ما اكتست شكل تحامل ممنهج يكشف نفاق الغرب. وكانت لافتة ''صحوة'' ضمير الصحافي الرياضي الإنكليزي، جوناثان ويلسون، الذي نشر مقالاً في ''ذا غارديان'' البريطانية عن ''عجز الدوري الإنكليزي الممتاز والاتحاد الدولي أمام سطوة الأندية السعودية". واعتبر أن 'السعودية تسعى إلى تحسين صورتها (...)" إذ من الأفضل، بتعبيره ''أن تكون معروفا بمحاولة التعاقد مع كيليان مبابي بدلا من أن تكون معروفا بتقطيع أوصال صحافي داخل مبنى قنصلية''. ومع التأكيد على أن الحقوق والحريات، في معظم البلاد العربية، تعيش أوضاعا مزرية، إلا أن ما ساقه ويلسون، لا ينم فقط عن نفاق بادٍ، بقدر ما يدلُّ أيضا على مركزية أوروبية متوطّنة في مؤسّسات الغرب ومنتدياته ونخبه. وفي الصدد ذاته، عبّر مدرّبون أوروبيون عن مخاوفهم من أن يسحب الدوري السعودي البساط من الدوريات الأوروبية، ويتحول إلى أقوى دوري في العالم، إذا ما نجحت الأندية السعودية في استقطاب لاعبين آخرين. وطالبوا الاتحاديْن، الدولي والأوروبي لكرة القدم، بإيجاد حلول لهذه المشكلة.
لماذا هذا الانعطاف في التعاطي مع الشأن السعودي من طرف أكثر من صحيفة وجهة في أوروبا؟ لماذا التباكي الآن على كرة القدم التي سلَّعها الاتحادان الدولي والأوروبي لكرة القدم والأندية الأوروبية الكبرى؟ الآن فقط أصبح المال مصدر تهديد حقيقي لمتعة كرة القدم؟ لماذا '''حلال'' على الأندية الأوروبية أن تستقطب من تريد من نجوم اللعبة و''حرام'' على الأندية السعودية ذلك؟
تحيل هذه الأسئلة وغيرها إلى تغوّل المركزية الأوروبية في كرة القدم، ونجاحها في تأسيس اقتصاد لكرة القدم، قائم بذاته، يتحرّك ضمن قواعد الاقتصاد العالمي ومقتضياته. ونجاح الحكومة السعودية، أو جهات نافذة في المملكة، في خصخصة أنديتها الكبرى وإعادة هيكلة أجهزتها وتحديث آليات إدارتها، بالتوازي مع استمرار استقطاب لاعبين معروفين للدوري السعودي الذي يُتوقع أن ترتفع قيمته التسويقية والفنية أكثر، ذلك كله من شأنه أن يحوّل مركز اقتصاد كرة القدم من أوروبا إلى السعودية، أو على الأقل يُشكّل قطبا كرويا منافسا، خصوصا إذا نجحت السعودية، بمعية مصر واليونان، في تقديم ترشيحٍ مشترك لاستضافة كأس العالم (2030).
من نافل القول إن كرة القدم صارت اقتصادا مصغّرا يغذّي الاقتصادات الأوروبية، ويدرّ مداخيل خرافية عبر التحكّم في سوق انتقالات اللاعبين والإعلان ومداخيل البث التلفزيوني. وظهور منافس في هذا الصدد، من شأنه أن يُقوّض ميزان القوى الكروي في العالم، بالنظر إلى ما يمتلكه من موارد مالية تكفي لإعادة صياغة علاقات القوة في مجال كرة القدم. ذلك أن الأندية السعودية لن تقف عند حدّ اجتذاب لاعبين في ''سن التقاعد الكروي''، مثل رونالدو، بل قد تضع استراتيجية مُحكمة في السنوات المقبلة، تهدف إلى التنقيب عن المواهب الكروية الشابة في أوروبا ومتابعتها ثم ضمّها لصفوفها، مُوظفة في ذلك ميزانيّاتها الضحمة.