هذه الشعبوية الصامتة في تونس
لم يعد التونسيون في بلدهم يستمعون إلى أصوات حكّامهم، منذ يوم 25 يوليو/ تموز 2021، أو حتى ما قبل ذلك بقليل. الكلمات الوحيدة التي نقلتها نشرة الأخبار في القناة التلفزية العمومية، التي لم تطأ قدما أي معارض مبناها منذ ذلك التاريخ، كانت كلمات مديح ساذج ومقتضب، من قبيل ما شاء الله، تماماً، نعم، بإذنٍ من سيادته إلخ. وكانت في جلساتٍ جمعت بين هؤلاء المسؤولين ورئيس الجمهورية، فكأن الجميع مصابون بخرسٍ حادّ.
غادرت رئيسة الحكومة، نجلاء بودن، منصبها بعد ما يقارب السنتين، ولم يسمع التونسيون صوتها إلا في مرّات نادرة تعد على الأصابع، نقلتها التلفزة، وهي تتكلم، في إحدى زياراتها في الخارج، حيث بدت تتهجّى العربية، وكأنها من الجاليات الأجنبية المقيمة في تونس. أما المرّة الوحيدة التي تكلمت بفصاحة في حضرة رئيس الجمهورية فقد قالت فيها: "ما شاء الله" وصمتت. غادرت بعد ذلك المنصب، وتولّى أحمد الحشاني رئاسة الحكومة عوضاً عنها. لا أحد يعرف الرجل سابقاً، ولا أحد أيضاً يفهم الأسباب الوجيهة التي رشّحت كفّته لتولي هذا المنصب في ظرف عسير للغاية. حبس الجميع أنفاسهم للاستماع إليه ومعرفة حتى صوته والتثبت من قدرته على النطق أصلاً. وانطلقت حملات مناشدة لسيادته حتى يتكلم. نقلت التلفزة اجتماعاته مع رئيس الدولة ووزراء حكومته، ولكنه لم يتكلم. ثم من دون سابق إعلام تكلم حضرته، في زيارة أدّاها صحبة وزير التربية لإحدى المدارس في اليوم الأول للعودة المدرسية. لم يكن الأمر في ندوة خصّصت للحدث أو في حوار مع الصحافة، أو حتى في مجرّد تصريح، بل كان أشبه بتسريب لمحادثةٍ كانت تجرى على الهواء مباشرة بين رئيس الحكومة ووزيره. كان الأخير يثني على جهود الرئيس في مجال التربية والعودة المدرسية تحديداً، وإذا برئيس الحكومة ينطق جملته الوحيدة، أو على الأقل تلك التي بثّها الصحافي: "الرئيس ما ثماش واحد كيفو"، أي أن الرئيس لا يضاهيه أحد. وتؤكّد هذه الجملة التي تجري على ألسن الناس "العاديين" مرّة أخرى أن الرجل لا يمتلك الجملة السياسة، وأنه إما عاجز عن صياغتها، أو تلك حدود الله، ولربما كانت حالة الصمت المفروض قد عقَدت لسانه.
تتراكم عشرات القضايا التي تحتاج على الأقل إلى حوار بشأنها
للألسني جورج لا كتاب مهم عنونه "الاستعارة التي نحيا بها"، ممجداً اللغة والاستعارة، والبلاغة عموماً. وينطبق هذا أكثر على بعض الشعبويات التي تعيش على استعاراتٍ تعبئ الجماهير وتجمعها، حتى على مشاريع الوهم اللذيذ، كأن تصوّر لشعب ما أنه يخوض حرب تحرير، وأن الكون طوع بنانه، وأن القوى الخارجية ترتعد فرائصها كلما ذكر اسم البلاد... إلخ. قدّمت شعبويات أميركا اللاتينية وحتى أفريقيا نماذج من تلك البلاغة الشعبوية التي تعبّئ الناس، بقطع النظر عن عقلانية تلك الحالات.
الشعبوية في تونس على خلاف ذلك. لا تحتفل باللغة الجميلة، بل إنها ترمي حينما تصوغ خطابها أطنان الكراهية والحقد، حتى حوّلت البلاد إلى قطيع كبير يُقاد إلى الهاوية. تحوّلت تونس إلى مملكة الصمت الرسمي. لقد أغلقت التلفزات برامجها السياسية الحوارية وحوّلتها إلى برامج تسويق، تعرّض فيه أواني الطبخ ومواد الغسيل وحتى الأدوات المدرسية. تظلّ هذه الحصص طوال كامل اليوم تلقي أطنان السلع الرخيصة والمغشوشة في وجوهنا يتخللها من حين إلى آخر بثّ أغانٍ تافهة.
تتراكم عشرات القضايا التي تحتاج على الأقل إلى حوار بشأنها، ندرة المواد الغذائية، البطالة المتفاقمة، التغيرات المناخية الحادّة، أزمة العطش، تردّي المرافق العمومية، تراجع المدرسة، تراجع الحرّيات، الانتخابات العديدة التي ستجرى خلال هذه السنة، ومع ذلك لا شيء يوحي بأن البلاد تمثل جماعة وطنية لها عيش مشترك، يفترض جدلاً عمومياً يحتضنه الإعلام العمومي وشبكات التواصل الاجتماعي.
جعلت مملكة الصمت المحكم الوزراء يهرُبون من المحاورات السياسية
حتى الفضاء الافتراضي، المتنفس الوحيد، الذي ضحّى من أجله التونسيون حتى حرّروه، غدا مهجوراً أو خاضعاً لآليات الرقابة الذاتية التي عادت لتشغل بكل قواها. يضع المرسوم 54 الذي سنّه الرئيس منفرداً الجميع تحت طائلة المحاسبة القضائية. لذلك اختفى النقد وأشكال السخرية العديدة التي ميزت التونسيين خلال عقد. لم يعد فيسبوك يشهد التونسيين، أو الأرجح أنهم تغيّروا كثيراً بعد سنتين من الانقلاب. لا يعد هذا مجرد مصادفة أو خشية من اتصال قد يوقع "رموز الدولة" في الخطأ، بل إنها سياسة مبيّتة. التحكم في اللغة والخطاب الرسميين حصرهما في مصدر وحيد، هو هرم السلطة المتكلم باعتباره المتكلم الوحيد.
وقد جعلت مملكة الصمت المحكم الوزراء يهرُبون من المحاورات السياسية. وقد تعود التونسيون في العشرية الفارطة الاستماع إلى مواقفهم، حتى تلك الأكثر غرابة في برامج حوارية عديدة كانت تحفل بها عشرات الإذاعات العمومية والخاصة. تحرص رئاسة الجمهورية، في مملكة الصمت هذه، على أن تتواصل مع شعبها، عبر الاستشارات الإلكترونية، وهي ابتكار فريد، تريد أن تقول للعالم إننا، بدءاً من تاريخ 25 يوليو/ تموز 2021، دخلنا عصراً جديداً هو عصر المجتمع الإلكتروني التي لا يحتاج فيها الحاكم إلى أن يجلس أو يجتمع مع مواطنيه أو نخبه، ليستمع إلى أصواتهم. لذلك ها هو يخترع لهم منصّات إلكترونية تجمع فيها مواقفهم من الإصلاح التربوي الذي سينطلق هذه السنة. تماماً كما يتم الأمر في برنامج "ما يطلبه المستمعون" في السبعينيات من القرن الماضي.
تجري شعبوية تونس في صمت مطبق، لا يقطعه بين حين وآخر سوى تصريحات هرم السلطة التي تعيد الجملة السياسية نفسها، من دون تجديد في المضمون، ومن دون ابتكار استعارات ملهمة... أما الجدل العمومي الصاخب إلى حدّ الصراخ والثرثرة فيبدو أنه من ذكريات "العشرية السوداء".