هذه الكوفيّةُ المرعبة
لطالما اقترنت الكوفية الفلسطينية بالنضال الوطني الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني، فلم تعُد مجرّد وشاح، بل أصبحت رمزاً لتشبث الشعب الفلسطيني بأرضه وهويته ومقوماته الوطنية. وعلى مدار سنوات كفاحه الطويلة، ظلت الكوفية حاضرة بكل حمولتها الثقافية والأهلية والنضالية في مواجهة مختلف أشكال الاجتثاث التي تعرّض لها الوجود الفلسطيني في الداخل والشتات. ومع الانعطافة الدراماتيكية التي ستعرفها القضية الفلسطينية في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، عزّزت الكوفية حضورها لتصير رمزاً كونياً عابراً للحدود، يؤكّد حقَّ الشعوب المستضعفة في مواجهة الاحتلال والاستيطان والاستغلال وتغَوُّلِ مراكز القوة والنفوذ التي يقودها الغرب الاستعماري بكل شراسة، ضدّاً على مصالح هذه الشعوب وتطلعّاتها نحو الحرية والاستقلال والحفاظ على هويّاتها.
مناسبة الإتيان على هذا الكلام ما شهده حفلُ تكريم الطلاب المتفوّقين في المدرسة العليا للتكنولوجيا بالدار البيضاء في المغرب، حين رفض عميدُ كلية العلوم (كان ضيفاً على الحفل بالمناسبة) تسليمَ طالبةٍ جائزَتها بسبب تَوشُّحها بالكوفية الفلسطينية. بل أكثر من ذلك، حاول نزع الكوفية عنها في ما يُعدُّ مسّاً صارخاً بحرمتها وحرّيتها، قبل أن ينسحب من الحفل وسط استياء الحاضرين. ولأن منصّات التواصل الاجتماعي عادة ما تتغذّى على وقائع كهذه، فسرعان ما انتشر الفيديو الذي وثّق الواقعةَ كالنار في الهشيم.
اللافت أنه ليس هناك نص قانوني في المغرب يحظر ارتداء الكوفية الفلسطينية، كما أن التوشّح بها لا يتعارض مع الموقف المعلن للسلطة بشأن دعم القضية الفلسطينية، هذا إضافة إلى التقاليد الأكاديمية والجامعية التي يُفترض أن تُحترمَ في حفلات التخرّج التي تنظمها الجامعات والمعاهد العليا. بيد أن الواقعة، في الوقت ذاته، تفتح قوسا للوقوف على التناقضات التي بات يفرزُها التطبيع المغربي الإسرائيلي داخل الفضاء العمومي في المغرب، من خلال تشكُّل توجُّهٍ ينتعش داخل دوائر جامعية وأكاديمية، يتوسّل بحرية الرأي والتعبير في إشهار انحيازه للتطبيع مع دولة الاحتلال، وبالتالي دفاعه عن مختلف أشكال التعاون الأكاديمي والعلمي بين جامعات مغربية وأخرى إسرائيلية.
ومع غياب أي أفقٍ لوقف حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال على قطاع غزّة، تزداد هذه التناقضات حدّة في المشهد المغربي، على اعتبار أنها تشكل وقودَ مواجهةٍ أيديولوجية وسياسية مستعرة بين خطاب مؤيدٍ للتطبيع، يوجد داخل السلطة وأوساط المال والأعمال والإعلام والثقافة والجامعات والحركة الأمازيغية، وخطاب آخر مناهضٍ له يجد في الحركة الإسلامية، بمختلف تنويعاتها، ومنظمّات المجتمع المدني، المحسوبة تاريخيا على اليساريْن الإصلاحي والراديكالي، حاضنةً فكريةً وسياسيةً.
من المؤكد أن بلداناً عربيةً أخرى تعيش هذا الوضع بشكل أو بآخر، فقد راهنت القوى الاجتماعية، المؤيدة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، على عامل التفوّق العسكري الإسرائيلي من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية وتفكيك قدراتها. وبالتالي، الحيلولة دون تحوُّلها إلى ''قُدوة فكرية سياسية'' تُلهم الحالمين بالتغيير السياسي والاجتماعي في الإقليم. لكن استماتةَ هذه المقاومة، وقدرتَها اللافتة على إدارة المعركتين الميدانية والتفاوضية مع العدو، ونجاحَها في التعاطي ببراغماتيةٍ مع الضغوط الإقليمية والدولية عليها، ذلك كله جعل معسكر المؤيدين للتطبيع يستعيض عن فشله، أو بالأحرى عن فشل الاحتلال، بنقل جزءٍ من المعركة إلى المجال الرمزي، باستهداف الكوفية الفلسطينية، لا يختلف سلوكُه في ذلك عن سلوك ''الديمقراطيات الغربية العريقة'' التي أصبحت هذه الكوفية بالنسبة لها هاجساً أمنياً وسياسياً خلال المسيرات والمظاهرات التي شهدتها، ولا تزال، مدن الغرب تضامناً مع الشعب الفلسطيني.
أعاد ''طوفان الأقصى'' إلى الواجهة الأبعاد الثقافية والحضارية للصراع، التي تذكّر الغرب وصنيعتَه بأن اغتصاب فلسطين، بكل ما ترتّب عليه من مآسٍ وويلات تحملها الفلسطينيون جيلاً بعد جيل، ليس فقط مجرّد مشكلة سياسية إقليمية كبرى، بقدر ما هو صراعُ رمزياتٍ لا يخلو من دلالةٍ. ولذلك التوشُّح بالكوفية الفلسطينية تحدٍّ مرعبٌ بالنسبة لهذه ''الديمقراطيات''، ذلك أن تزايد الإقبال عليها يعكس اتّساع قاعدة المؤيدين للحق الفلسطيني في الغرب والعالم، مع ما يعنيه ذلك من تآكل السردية الإسرائيلية وانحسار تأثيرها.