هشام جعيط .. سيرة مؤرّخ فذّ وتحولات وطن
فقدت تونس والعالم العربي مفكّراً فذّاً شغل عقوداً طويلة الساحة الفكرية. وأثارت كتاباته العلمية التي توزّعت على مباحث تاريخ الإسلام المبكر والشخصية العربية والحوار الأوروبي - الإسلامي، فضلاً عن قضايا عدة، جدلاً فكرياً خصباً، بل إنّ مؤلفاتٍ له ظلّت عناوين محفورة في ذاكرة أجيال متعاقبة: الشخصية العربية، الفتنة، الكوفة، في السيرة النبوية. ربما كان جعيط من المفكرين التونسيين القلائل الذين شدّوا الرأي العام، الفكري والثقافي، أكثر من نصف قرن. كان في وسع الرجل أن يظلّ مؤرّخاً يكتب مؤلفاته، ويكسب راتبه، من دون أن يخوض مغامرة بحثية في مناطق معرفية شديدة الحساسية: الإسلام المبكر.
ربما اجتباه التاريخ، ليؤدّي هذه الأدوار المتعدّدة، حتى تحوّل تدريجياً إلى مثقف بالمعنى الحقيقي للكلمة. ينتمي إلى جيل مخضرم بدأت رموزه للأسف ترحل تدريجياً، فهو من مواليد 1935. أدرك في حداثته الاستعمار عقدين، ثم هزّته مبكّراً نشوة الاستقلال وهو شاب، وظلّ ينشد أحلاماً عريضة، غير أنّه سرعان ما خاب ظنّه بالجيل المؤسس للدولة الوطنية، على الرغم من تقديره جهودهم، ولحقته محاصرة نظام الاستبداد مع بن علي، فانسحب إلى ديره في ما يشبه الناسك، ويحوّل داره إلى ورشة دائمة للكتابة.
يبدو أنّ هشام جعيط لم ينجُ من تأثير بيئته الحضرية التي ترعرع فيها، وعلى خلاف مثقفين عديدين منتمين إلى هذه الأوساط، لم يتنكّر لها
تستطيع متابعتنا المنعطفات الكبرى لسيرة هشام جعيط أن تدلنا على التحولات الكبرى التي عرفتها تونس والمنطقة العربية عموماً. هزّته هزيمة 1967، وطعنته في كبريائه القومية، فألف عنها كتاب "الشخصية العربية والمصير العربي" (صدر سنة 1974 بالفرنسية في باريس قبل تعريبه لاحقاً)، وكان حدثاً فارقاً في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة، من دون أن ننسى قبله بقليل كتاب "الأيديولوجيا العربية المعاصرة" للمغربي عبد الله العروي، وقد التقيا مرات عدة في ندوات فكرية، على الرغم من اختلاف رؤيتهما للتاريخ، فلسفةً ومنهجاً.
من خلال حواراته القليلة وكتاباته، يبدو أنّ هشام جعيط لم ينجُ من تأثير بيئته الحضرية التي ترعرع فيها، فكما يقول العرب، هو سليل عائلة علم ومجد، فجدّه كان وزيراً أول في عهد البايات، وكان أحد أعمامه المفتي الأكبر لتونس قبل الاستقلال. مكّنته هذه البيئة من التهام أمهات الكتب العربية القديمة من شعر وسير وطبقات الأعيان... إلخ، غير أنّ تعليمه الحديث الذي كان محصوراً في أبناء الفئات المدينية المرفهة مكّنه من الاطلاع على الثقافة الغربية. وعلى خلاف مثقفين عديدين منتمين إلى هذه الأوساط، لم يتنكّر جعيط لبيئته، وظلّ وفياً لها بالمعنيين، الثقافي والرمزي. اختار أن يحرث في أرض بور، تركها أجداده، على الرغم من اعتقادهم الواهم أنّهم استوفوها حقها من المعرفة والبحث، إنّها هي تاريخ الإسلام المبكر، وتحديداً زمن الدعوة المحمدية.
افتتن بسيرة النبي محمد، وخصّص له جلّ حياته، وظلّ يعتقد أنّ سيرة العرب وحضورهم في التاريخ ارتبطا بسيرة النبي
اختار بعضهم الهجرة إلى علوم الغرب الحديثة، استراتيجية تدارك وارتقاء معرفي واجتماعي، لكنّه على خلافهم اختار الهجرة إلى التاريخ والماضي من أجل المستقبل، كما كان يذكر دوماً. افتتن بسيرة محمد، وخصّص له جلّ حياته، وظلّ يعتقد أنّ سيرة العرب وحضورهم في التاريخ ارتبطا بسيرة النبي. خاض معارك فكرية كبرى مع المستشرقين الذين كانوا يختزلون التاريخ العربي، ويجرّدونه، حسب اعتقاده، من عظمته، حين يردّون تلك النقلة النوعية التي عرفها العالم العربي في أوائل القرن السادس الميلادي إلى حتميات اقتصادية، من قبيل تطور الرأسمال التجاري البدوي، وحاجته إلى التوسّع، وهي أطروحاتٌ دافع عنها ماكسيم رودنسون ومستشرقون آخرون، ومؤرّخون تونسيون وعرب. وكان جعيط يعتقد أنّ المستشرقين صنفان: عميق التفكير، وآخر سطحي هو أقرب إلى الأيديولوجيا المتعالية. كان يبحث عن جذور ثقافية روحية للإسلام وللدعوة المحمدية في أديان الشرق، وتلك الحاجة الملحّة التي ظهرت آنذاك، هذه الروحية هي التي ولع بتتبع مصادرها وآثارها. كان جعيط يردّد أنّه لا يطمئن إلى "التاريخ الجاف" ولا يخفي أنّه من أنصار تاريخ رمزي مكثف، ملحمي أحياناً. لذلك، كانت له علاقاتٌ متينةٌ مع الاستشراق الألماني تحديداً. كان جعيط قد لام، في بعض حواراته، مؤرّخين، تونسيين وغير تونسيين، واعتبرهم مجرد مدرّسي تاريخ، يقتاتون من عملهم. وقد أثارت مواقفه ردود أفعال حادّة من زملائه، فاتهموه بالغرور والاستعلاء، لكنّه لم يكن يأبه بما يقال عنه، وتلك نقطة قوّته.
يذكر هشام جعيط أنّ الرئيس الراحل، الحبيب بورقيبة، استمع إليه مرّة في أحد حواراته في الإذاعة الوطنية الوحيدة آنذاك، ودعاه إلى لقاءٍ في قصر قرطاج. لكن، يبدو أنّ اللقاء كان يتيماً. لقد عرف بورقيبة أنّ جعيط مؤرّخ من طينة أخرى، يصعب ترويضها حتى يكتب تاريخاً على المقاس... ظلّ الرجل يذكر بورقيبة بخير، على الرغم من مؤاخذاته العديدة، لكن لم يؤسطره ولم يشيطنه، وظلّ دوماً يتجنّب تغليظ القول فيه، على غير عديدين من مثقفي الجامعة التونسية ممن عاصرهم.
حين قامت الثورة في 2011، ظلّ هشام جعيط بعيداً كالعادة عن الأضواء التي لم يكن يطمئن إليها
مع مجيء زين العابدين بن علي رئيساً سنة 1987، كان هشام جعيط من أوائل من نبّه إلى خطورة هذا الرجل في إحدى صحف الرأي آنذاك، قبل أن تنقلب وتدخل بيت الطاعة. لم يكن يملك معلومات دقيقة عن سيرة الرئيس الجديد الغامضة أو نواياه الملتبسة، لكنّ حدوسه التاريخية جعلته لا يطمئن إلى عسكري صغير، يتسلق السلطة بكلّ هذه السرعة. دفع المؤرّخ ثمن ذلك الموقف الجريء، واضطرّ إلى التقاعد المبكر من الجامعة. لم يسعفه النظام وإن بيوم واحد بعد الستين، في ممارسة إذلالية لم تفلّ من عزيمته، في حين كان غيره يتمتعون بتمديداتٍ متتالية تصل إلى عقد. لاذ بمحرابه، وألّف من الكتب أكثر مما ألف وهو يباشر البحث والتدريس في الجامعة. اختار العزلة في بيته المتواضع في ضاحية المرسى في العاصمة. كانت زوجته الفرنسية قد ملأت عليه فراغات الانسحاب من الحياة العامة، حتى فارقت الحياة سنة 2015. وقد لازمه الحزن عليها.
حين قامت الثورة في العام 2011، ظلّ هشام جعيط بعيداً كالعادة عن الأضواء التي لم يكن يطمئن إليها. ولذا لم نره تقريباً على أيّ بلاتوه إعلامي، ولم يتحدث إلاّ نادراً عن محنته، متعفّفاً دوماً، كالعادة، عن الخوض في التفاصيل الشخصية، فالرجل الشغوف بسيرة محمد لم يكن راغباً في الحديث عن سيرته. حين زرته سنة 2013، وعرضت عليه رئاسة المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون والعلوم (بيت الحكمة) تردّد خشية أن يشغله المنصب عن التأليف والكتابة، فضلاً عن خروجه عن شعائر العزلة التي اختارها راهباً في محراب المعرفة، غير أنّه قبِل تلك المهمة تحت إلحاح عديدين من أصدقائه، وكانت اعترافاً له بمكانته العلمية الفذّة.
لم يكن الرجل حريصاً على كتابة سيرته الخاصة، أو حتى مجرّد مذكّراته، معتقداً أنّ كتاباته ومؤلفاته هي سيرته، وأنّه لن يضيف شيئاً إن كتبها
كنت أزوره، بعدما غادر "بيت الحكمة" سنة 2015، من حين إلى آخر، طوراً بمفردي، وطوراً صحبة المؤرّخ الشاب، لطفي بن ميلاد، فلم يكن الرجل حريصاً على كتابة سيرته الخاصة، أو حتى مجرّد مذكّراته، معتقداً أنّ كتاباته ومؤلفاته هي سيرته، وأنّه لن يضيف شيئاً إن كتبها، ولم تكن حتى كتابة سيرة علمية تستهويه. وأذكر أنّ مذيعة في التلفزة الوطنية (التونسية)، قرأت جلّ كتابات جعيط، ولها إعجاب واحترام شديد له، رافقتني في إحدى زياراتي له سنة 2018. تحادثنا عن فترة تدريسه القصيرة في كلية الشريعة، والتي كانت تعيينا في شكل بخّس من بعض رفاقه المؤرّخين الذين لم يستسيغوا تدريس تاريخ الإسلام المبكر في جامعة فتية، كانت تطمح أن تكون ورشة "تحديث علماني" لا يدرّس الدين حتى من وجهة نظر تاريخية. دعته المذيعة، بكلّ لطف، أن يخرج إلى الإعلام، ويخوض في قضايا الرأي، فتونس تحتاج آراءه، حسب اعتقادها. فوجئ بالدعوة التي قدّر حسن نيتها، لكنّه أجابها بكلّ صرامة أنّه غير معنيّ بالرأي العام، بل لا يعنيه أصلاً، وأنّه يتوجه إلى النخبة التي يهمها ما يؤلفه.
كان جعيط يعتقد أنّ للمحراب رهبته الخاصة. ولذلك، كان ظهوره الإعلامي نادراً. يذكر إعلاميون عديدون أنّ الرجل لا يستسلم لطلباتهم إلا بشقّ الأنفس، وأنّه كان مهاباً. كان يرفض تماماً هذه الشعبية الزائفة التي يجري وراءها عديدون من "مثقفي" الجامعة. كانت له صداقات "حذرة" مع جلّ الطيف السياسي. لذلك كان ملكهم جميعاً: إنّه المثقف الذي يرون فيه صورتهم التي يعجزون بمفردهم عن رسمها، ولذا عدّوا رحيله خسارة وطنية فادحة.