هل أصدرت قراراً جمهوريّاً اليوم؟
هي السفينة تغرق فعلاً، كما وصف محمد البرادعي المشهد من بعيد، بعيد جدّاً.
لم يحدث أن كانت مصر على هذه الحالة من التخبط والبلادة وقلة الحيلة وقلة القيمة وقلة العقل والضمير.
لم يحدث أن تضاءلت مصر، الكبيرة العظيمة، إلى مجموعة من مقاطع الفيديو، متناهية في الصغر، متناهية في القبح، متناهية في العجز.
لم يمر على مصر نظام حكم، جمع كل هذا القدر من السلطات والصلاحيات، نظام هو النموذج الأوضح لحكم الفرد، شخص واحد في يده مقاليد التشريع والتنفيذ والقضاء، وفي الأخرى مفاتيح الجيش والشرطة والدبلوماسية والفنون والثقافة، وعلى الرغم من ذلك، ترى انهياراً وتآكلاً في كل شيء، إلى الحد الذي يجعل ألد الخصوم يشفق على مصر من هذه المهانة الممتدة.
لقد قامت القيامة على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، لأنه استخدم صلاحياته، مرة واحدة، وأصدر إعلاناً دستوريّاً، تضمن مجموعة من القرارات والإجراءات التي لا تتعارض مع مطالب وأهداف ثورة يناير، فكان إعلان النفير لإسقاطه، وبدأ الأمر بمحاصرة القصر الرئاسي، تحت رعاية مؤسسات الدولة العميقة وبمباركتها.
اتهموا محمد مرسي بالديكتاتورية والاستبداد، لأنه أصدر إعلاناً دستوريّاً، تراجع عنه بعد أيام قلائل، وربما ساعات من إصداره، ومع ذلك استمر الثغاء بأن الشرعية سقطت وأن الثورة لن تقبل بأن يحكمها مستبد.
كان هذا المستبد محاصراً ممن يفترض أنها مؤسسات تحمي الدولة وتصون النظام الجمهوري، كانت المؤسسة العسكرية ضده، والشرطة تحاربه، والدولة العميقة تتمدد وتتوغل وتتغول في كل شبر على أرض مصر، من محطات الوقود إلى دار الأوبرا، ويحيط به نظام دولي وإقليمي متربص ومتوجس ومستنفر طوال الوقت، وعلى الرغم من ذلك، لم تكن مصر بهذا الارتباك والتخبط والعجز المهين.
الآن، تعيش مصر تحت حكم عسكري صريح، يقودها فرد في يده السلطات كلها، يفطر بقرار جمهوري، ويتعشى بقانون نافذ، لا يحاسبه أو يراجعه أحد، هو البرلمان، وهو الحكومة، وهو التلفزيون الرسمي والخاص، وهو رئيس تحرير كل الصحف الحكومية والخاصة، يأمر فيطاع، يقول فيهلل له الجميع، يمضي بالسفينة إلى الوجهة التي يريد، وبالسرعة التي يريد، تحت رعاية واحتضان كاملين من نظام دولي معدوم الضمير، يغض الطرف عن فظائع ومذابح ثابتة بالصوت والصورة، بذريعة استخدامه في حرب على إرهابٍ، هم صناعه وزراعه وتجاره.
توافرت لهذا النظام كل العناصر التي من شأنها أن تصنع نجاحاً، حتى لو كان غير مستحق، ومع ذلك، حقق فشلاً نموذجيّاً في كل شيء، لا اقتصاد نهض ولا أمن تحقق، ولا سياسة دارت عجلتها، ولا ديمقراطية جاءت.
طوال الوقت، يصيحون "دعونا نبني وطناً"، لكن أي وطن يبنى على أرضية مزروعة بجماجم وأشلاء ومروية بدماء؟
إنهم يزرعون كل الأرض خوفاً وعنصرية وإرهاباً، ويكفرون الناس بالديمقراطية، ويعتبرون الكلام عن الحريات ترفاً، لا وقت له، ثم يطلبون الهدوء والاستقرار، في مجتمع حولوه إلى غابات مفتوحة لممارسة أحط أنواع العنصرية والمكارثية، وهذا هو النجاح الوحيد لسلطةٍ تأسست على الإقصاء والإبادة.
وفي وضع كارثي لهذه الدرجة، لن يمر وقت طويل، حتى ينفجر هؤلاء الذين صدقوا أكاذيب وأوهام من نوعية "مصر قد الدنيا"، فكل يوم يمر يسقط معه قناع من أقنعة الاستبداد، بحيث لم تعد شماعات "المؤامرة الكونية" تصلح لتعليق المطالب والأحلام لأجل غير مسمى.
باختصار، لم يعد في الذاكرة الجمعية مساحة لاستيعاب حواديت أكثر عن العناتيل والعنتيلات، ومقاطع الفيديو المروعة.