هل انتصر اليسار وانهزم اليمين المتطرّف في فرنسا؟
انتهت الانتخابات التّشريعية المسبقة، في فرنسا، ببروز ثلاثية أقطاب في الجمعية الوطنيّة (الغرفة السُّفلى للبرلمان): اليمين المتطرّف، أنصار تيار الرئيس إيمانويل ماكرون والقطب اليساري. لكن، بالرّغم من هذه النّتيجة، فانّ الرئيس الفرنسي والإعلام اليميني يواصلان التّلاعب بالوعي السّياسي الفرنسي وفق ما ستبيّنه هذه المقالة، في ثلاث وقفات تتعلّق، على التّوالي، بالمخارج الدُّستورية - السّياسية للانتخابات التي انتظمت أخيراً، بقاء الإعلام بمضمونه المحرّف للعقل السّياسي الفرنسي، إضافة إلى عدم تصحيح الانحرافات بشأن ما يجري على السّاحة الدُّولية، وبخاصة مجازر الكيان الصهيوني في غزّة ومسألة معاداة السّامية.
بالنّسبة إلى المخارج الدُّستورية - السّياسية، رفض الرئيس الفرنسي الاعتراف بالنّتائج، بحجّة أنها لم تمنح أيّاً من الأقطاب الأغلبية المطلقة، واضعاً، على طاولة المفاوضات لتكوين الحكومة القادمة، تفسيراً لم يقبله كثيرون من الدُّستوريين، متضمناً سموّ مكانة الرّئيس وصلاحياته على كل الأوضاع السياسية غير المكتملة بالأغلبية المطلقة، مضيفاً إلى الفوضى التي أوجدها بحلّه للجمعية الوطنية إغلاقاً سياسياً، بل مرسلاً، إلى الطّبقة السّياسية التّي فككها، منذ ولايته الأولى، أنّه قد لا يعترف بالانتخابات ونتائجها، ما يعزّز من قوة ظاهرة تأزم الدّيمقراطية والحاجة إلى بديل أكثر عمقاً وعدلاً، بشأن حرّية الإنسان، من تلك الإجراءات التي أوجدتها الليبرالية، ولم تفلح في إعلاء شأن حرية الإنسان، اقتصادياً وسياسياً.
يتساءل المحلّلون والسّياسيون، على حدّ سواء، عن مقاربة الرئيس ماكرون للحكم، في الفترة المقبلة، ويحاولون فهم قراراته بمطالبة الطّبقة السّياسية، وخصوصاً اليسار الفائز، ممثّلاً بالجبهة الوطنية الجديدة بقيادة الاشتراكيين وحزب فرنسا الأبيّة، بتكوين ما أطلق عليها الأغلبية القويّة، وهو يعلم، تمام العلم، أنّ تفتُّت الصوت الانتخابي، والتّمثيل، بالنّتيجة، داخل الجمعية الوطنية، بين الأقطاب السّياسية الثّلاثة، لن يمكّن أحداً من الوصول إلى الأغلبية القويّة، وهو ما فاقمه تأخر اتّفاق تحالف اليسار على مرشح لقيادة الحكومة الجديدة بعد خلاف عميق بين الحزب الاشتراكي و"فرنسا الأبية"، وقد تمّ الاتفاق أخيراً على لوسي كاستي.
لم تساهم الانتخابات التّشريعية المسبقة، في فرنسا، بالرّغم من رفع القطب اليساري، خصوصاً حزب فرنسا الأبيّة صوته، في تغيُّر موقف فرنسا الدّاعم للكيان الصُّهيوني
على المستوى الإعلامي، خلُصت متابعة كاتب هذه المقالة عشرات اللّقاءات الإعلامية والنقاشات في استوديوهات مختلف القنوات، حتى العمومية منها، إلى بقاء الاستقطاب بشأن موضعين اثنين أساسيين: الهجرة أو الآخر، من ناحية، ومسألة معاداة السامية، من ناحية أخرى، حيث يجري الحديث، في أوساط اليمين واليمين المتطرّف، بل ولدى الأغلبية الرّئاسية، عن معاداة السّامية لدى حزب فرنسا الأبية، على وجه الخصوص، بعدما تحدّث قائدها، جاك لوي ميلانشون، عن اعتزامه الاعتراف بالدّولة الفلسطينية إذا فاز بترشيح اليسار له وقبل الرئيس ماكرون به رئيساً للحكومة.
تستمر القنوات في عرض مضمون الرّسائل الإعلامية نفسها، المتضمّنة تصدّر ما يُعرف بنظريّة الاستبدال الكبير، كذلك يجري تناول مسائل عديدة خاصّة بالهجرة وعلاقتها بالأزمة السّياسية في فرنسا، إضافة إلى التّركيز على مشاريع القوانين التي من شأنها أن تحدّ من تدفُّق الهجرة إلى فرنسا، باعتبارها -وفق آراء الطّبقة السّياسية الفرنسية- السّبب في انتشار ما جرت تسميته التّهديد الإسلاماوي، تدهور الرُّوح الجمهورية لدى المسلمين واستحالة الجمع بين قوانين الجمهورية والشّريعة الإسلامية التي يعتقدونها مانعة للمسلمين من الاندماج ثقافة، لغة ومواطنياً، أيضاً.
تتصدّر ثلاثة قنوات إخبارية (LCI, BFM, CNEWS)، إلى جانب بعض حصص القطاع الخاص أو العمومي، المشهد السياسي، ولا تكاد تفرق، في شكل ما يعرض ومضمونه، بين أيٍّ منها، إذ إنّ الإشكالات المشار إليها في هذه السطور، خصوصاً الهجرة ومعاداة السّامية، تشكل مادّة دسمة، وضيوف بلاتوهات هذه القنوات، كلّها، ممّن كان توجّههم الأيديولوجي أو انتماؤهم السّياسي، ما عدا مجموعة فرنسا الأبيّة، متّفقين على أنّ فرنسا تغيّرت بوجود المهاجرين، وأنّ خلاص فرنسا في الاستمرار في مساندة الكيان الصُّهيوني وأوكرانيا (بمناسبة انعقاد قمّة الناتو بمناسبة الذكرى الـ75 لإنشاء الحلف)، وهو تناول إعلامي يكاد يكون متناسقاً ومتطابقاً، تماماً، مع ما يدعو إليه ايريك زمُّور واليمين المتطرّف، ممثلاً بـ "التّجمُّع الوطني"، وأطياف من مثقّفي تلك القنوات والمحللين فيها، لتكون النّتيجة أنّ فرنسا اتخذت توجُّهاً يمينياً لا تغيّره الانتخابات، ما سيسهّل على الرئيس الفرنسي مهمّته في الاستمرار في تفكيك الطّبقة السّياسية وتعزيز فرص نجاح المنعرج النيوليبرالي (تحدّث عنه الكاتب في مقالة سابقة في "العربي الجديد") للسّياسات العامّة والاقتصاد، بوجه عامّ.
يعلم ماكرون أنّ تفتُّت الصوت الانتخابي، والتّمثيل، بالنّتيجة، داخل الجمعية الوطنية، بين الأقطاب السّياسية الثّلاثة، لن يمكّن أحداً من الوصول إلى الأغلبية القويّة
لم تساهم الانتخابات التّشريعية المسبقة، في فرنسا، بالرّغم من رفع القطب اليساري، خصوصاً حزب فرنسا الأبيّة صوته، في تغيُّر موقف فرنسا الدّاعم للكيان الصُّهيوني، كذلك لم تساهم في إبراز أنّ ما يجري في فلسطين مجزرة متكاملة الأركان، بمرجعية ما جرى تناوله في محكمتي العدل والجنايات الدُّوليتين، بصفة خاصة، وهو ما نظنُّه السّبب الرّئيس في إصرار الرّئيس ماكرون على خلط الأوراق ورفض نتائج الانتخابات، وفق استنتاجات اليساريين، بل لم تساهم في تغيير معاني مفاهيم على غرار مفهوم معاداة السّامية التي تُرفع في وجه أيّ منتقد للكيان ومجازره، بل ويُمنع، منعاً باتاً، الحديث عن الفلسطينيين إلّا بوسمهم بالإرهاب مع تصدُّر الحديث الإعلامي والسّياسي عما جرى في 7 أكتوبر بأنّه محرقة في حق اليهود (Pogrom) تذكّر الأوروبيين والغرب، عموماً، بما جرى في الحرب العالمية الثّانية لليهود على يد النّازية، متناسين، كما تقول "فرنسا الأبية"، عبر ممثّليها، أنّ ما جرى لم يأتِ من فراغ، بل هناك 70 عاماً من الاحتلال الاستيطاني لفلسطين، إضافة إلى مجازر وترحيل وسجون، كذلك فإن ما جرى بعد 7 أكتوبر لا يحمل إلّا عنواناً بارزاً، هو المجزرة في حق الفلسطينيين، الإبادة الجماعية ومحاولة محور الوجود الفلسطيني في غزّة وفي الضّفّة الغربية.
بالنّتيجة، فإنّ تداعيات الانتخابات، لو فاز بها اليمين المتطرّف، تتحقق بفوز قطب اليسار، لأنّه فوز من دون تبعاته من ترشيح وزير أول منه، حكومة من وزراء يساريين، وتوقف ذلك الخطاب السّياسي المتطرف المتهكّم بالآخـر والمناصر، إلى آخر رمق، للكيان الصهيوني بل، ابعد من ذلك، نسمع تسريبات تعلق الحصول على الجنسية الفرنسية، بتوقيع على اعتراف بدولة الكيان وبحقّه في الوجود تماماً مثل ما فعلت ألمانيا، أخيراً، في الملف نفسه، بالنسبة إلى المرشحين للحصول على الجنسية الألمانية.
تنتهي التشريعيات من دون انتصار لليسار، لكن بتكريس الفراغ والتّفكيك اللّذين أرادهما، وعمل لتحقيقهما ماكرون
نشاهد، أيضاً، أنّ السّياسات التي ستتبناها فرنسا، على المستوى الاقتصادي، ستكون في السّياق الذي فرضه الرئيس الفرنسي منذ انتصاره بالعهدة الأولى، في 2017، ما يعني أنّ عودة إضرابات السُّترات الصّفراء ستعود بتكريس تلك السّياسات لعدم المساواة، في حين أنّ المجالات الأخرى، السياسية والاجتماعية، ستستمرُّ في تفكيك كل الأيديولوجيات وتصدير الفكر اليميني المتطرّف، ليكون مقابلاً للفكر اليساري، وكأن الاستراتيجية التي يريدها ماكرون، وفق بعض التّحليلات، الفراغ أو الفوضى، وهما خياران وضع بهما فرنسا في مرمى ضياع المكانة والتّدهور، شيئاً فشيئاً، خصوصاً في الفضاءات الجيوسياسية التي كان لها كلمة فيها على غرار الاتّحاد الأوروبي، الضفّة المتوسّطية ومنطقة السّاحل، بل والقارّة الأفريقية، الفرنكفونية، برمّتها.
تنتهي التشريعيات، إذن، من دون انتصار لليسار، لكن بتكريس الفراغ والتّفكيك اللّذين أرادهما، وعمل لتحقيقهما ماكرون. ويسعى، حالياً، لإدامتهما من خلال إعمال صلاحياته في عدم تسمية حكومة من القطب اليساري المنتصر، سياسياً، ما سيعمّق من أزمة الدّيمقراطية في فرنسا ومن خلالها في الغرب، عموماً.