هل انطلق الربيع الكوبي؟
تشهد كوبا منذ 11 يوليو/ تموز الجاري احتجاجات شعبية، تطالب بالحرية والخبز والدواء والكهرباء. وتُعدُّ هذه الاحتجاجات الأعنف منذ أحداث ماليكوناثـو (1994)، ولعل ما يميزها أنها لم تقتصر على العاصمة هافانا، بل اجتاحت معظم مدن الجزيرة الواقعة في بحر الكاريبي (150 كلم من ولاية فلوريدا الأميركية) وبلداتها. ويرى بعض متتبعي الشأن الكوبي أن هذه الاحتجاجات تشبه الأحداث التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينيات، من حيث توخّيها إسقاط الحزب الشيوعي الكوبي، ولكن من دون خريطة طريق بشأن ما سيكون عليه الوضع في حالة سقوط النظام الموروث عن فيديل كاسترو. ولعل غياب هذه الخريطة هو ما يقلق بعض الفئات داخل المجتمع الكوبي، فهي وإن كانت لا تُخفي معارضتها النظام، إلا أنها ترى أن أي تغيير ينبغي أن يكون محكوما بحساباتٍ واضحة، تجنبا لأي سيناريو قد يدفع البلاد نحو المجهول.
ساعدت عوامل كثيرة على انفجار الوضع في كوبا، أبرزها غيابُ فيديل كاسترو بكل رمزيته التاريخية والنضالية، وافتقادُ خلفَيْه، راوول كاسترو والرئيس الحالي ميغيل دياز كانيل، الكاريزما التي كان يتمتع بها، وتحكُّمُ الحزب الحاكم في المجال العام، وتضييقُهُ على المعارضين والمثقفين في مشهد يذكّر بالأنظمة الشمولية التي حكمت دولا كثيرة إبّان الحرب الباردة، إضافة إلى الإفلاس الاقتصادي الناتج عن انخفاض قيمة العملة الوطنية وتوقفِ المساعدات النفطية الفنزويلية ومخلّفات الحصار الأميركي الطويل. وجاءت جائحة كورونا، بكل تداعياتها، لتُفاقم حالة الانسداد العام التي تعيشها البلاد منذ عقود.
وعلى الرغم من الجهود التي يبذلها الحزب الشيوعي للتعتيم على الاحتجاجات، سيما في ما يتعلق بمراقبة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصّات المراسلة، إلا أن ذلك لم يحل دون تسر~ب صور وفيديوهات توثق مواجهاتٍ عنيفةً بين قوات الشرطة (والجيش) والمحتجين خلال الأسبوع الماضي. ويُدرك الحزب أهمية معركة الإعلام في هذه الاحتجاجات. ولذلك لم يتوقف إعلامُه الرسمي، منذ اندلاع الأزمة، عن نعت المتظاهرين بالمرتزقة الذين يخدمون الأجندة الأميركية والغربية. وقد كان في رفع هؤلاء شعار ''الحرية والوطن والحياة''، في مواجهة شعار الحزب ''الوطن أو الموت ''، رسالةً لا تخفى دلالاتها بالنسبة لمآل هذه الأزمة، خصوصا بعد أن دخل حاكم ولاية ميامي، كوبي الأصل، فرانسيس سواريز على الخط، داعيا إلى تدخل عسكري أميركي في كوبا. ويرى بعضهم أن ما تفوّه به سواريز لا يضع الحراك الشعبي في موقفٍ حرج فقط، بل يمنح النظامَ، أيضا، هامشا لتسخير الموارد التي كان يوظفها خلال الحرب الباردة، وهو ما قد يسحب البساط من تحت أقدام هذا الحراك على أكثر من صعيد.
في السياق ذاته، تعيد الأزمة الكوبية إلى الواجهة مشكلة الشرعية عند اليسار في أميركا اللاتينية، في ظل استمرار إخفاق معظم تشكيلاته في ربط الشرعية بالديمقراطية، ذلك أن رحيل فيديل كاسترو أفضى إلى سحب جزءٍ غير هيّنٍ من موارد الشرعية الني يستند إليها الحزب الشيوعي. وعلى الرغم من محاولة خلفَيْه ضخ دماء جديدة في إرثه السياسي، إلا أن ذلك لا يبدو أنه يقنع الأجيال الجديدة التي تفصلها عقود طويلة عن ثورة 1959. فلم تعد السردية الثورية تغريها أمام التحوّلات التي يشهدها العالم، وباتت أزمة خليج الخنازير (1961) جزءا من التاريخ البعيد الذي قد لا يعنيها كثيرا.
تُعدّ الأزمة الحالية تحدّيا حاسما بالنسبة للحزب الشيوعي الذي يرفض الاعتراف بأن مياها كثيرة جرت تحت الجسر، منذ وضعت الحرب الباردة أوزارها قبل أكثر من ثلاثة عقود. وبالتوازي مع ذلك، يبقى الموقف الأميركي عاملا مهما في ما ستؤول إليه الأوضاع في كوبا، بعد أن وصف الرئيس جو بايدن النظام الحاكم في هافانا بالاستبدادي، ما يعني دعما كاملا للحراك الشعبي الذي قد يكون مقدمةً لربيع يزهر في آخر معاقل الشيوعية.