هل ترتدُّ ''المشكلة اليهودية'' إلى أوروبـا؟
يصعب تخطّي بعض الوقائع من دون التوقف عند دلالاتها. ومثالاً، تراجعُ عمدة مدينة أمستردام فمكا هالسما، مستهلّ الأسبوع الجاري، عن وصف أحداث الشغب التي شهدتها العاصمة الهولندية قبل أسبوعين على خلفية مباراة فريقيْ مكابي تل أبيب الإسرائيلي، وأجاكس أمستردام الهولندي، بـ''المذبحة''، حيث أبدتْ انزعاجها من توظيف جهات إسرائيلية وهولندية تلك الأحداث لأغراض سياسية، واعتبرتْ استخدامَ هذه الكلمة ''تمييزاً ضد مسلمي أمستردام''. وقد أثار تصريحها غضب دولة الاحتلال، التي لم يتردّد وزيرُ خارجيتها جدعون ساعر في اتهامها بـ''التستّر''.
ينبئ تراجع عمدة أمستردام عن تصريحها السابق بتحوّلٍ قد يكون له ما بعده في السنوات المقبلة إذا ما أجادت الجاليات العربية والمسلمة في أوروبا، وبالأخص الفلسطينيين، استثمار مثل هذه الواقعة بما يُعدِّل بوصلة الرأي العام الأوروبي، بجعله يتعرّف إلى حقيقة الصراع الذي لا يزال مرتهناً، بقدر كبير، لمغالطات الدعاية الصهيونية. وفي الوسع القول إن طيفا من النخب الأوروبية (لا يزال غير مؤثر في صناعة القرار الاستراتيجي) بات يشعر بحرجٍ شديدٍ في القفز على أدلة دامغة تدين دولة الاحتلال؛ لقد كانت صادمة المشاهد المتداولَةُ على منصّات التواصل الاجتماعي، التي تُظهر مشجّعي الفريق الإسرائيلي وهم يردّدون شعارات معادية للفلسطينيين والعرب، ويحرّضون على مواصلة حرب الإبادة على الأطفال في غزّة. يصعُب قبول هذا الأمر في بلدان أوروبية تشكل قيمُ الحرية والديمقراطية والتعدّدية والمساواة عصب نظامها الاجتماعي والسياسي، كما هو الحال في هولندا.
تدرك الحكومات الأوروبية، أو بالأحرى ''الدول العميقة في أوروبا''، أن تحوُّلَ بوصلة الرأي العام بشأن الصراع سيعيد ''المشكلة اليهودية'' إلى مجتمعاتها، لكن ضمن سياق مغاير تماما لما كان عليه الأمر قبل المحرقة اليهودية. وهو ما يثير مخاوفها، لا سيّما أن عشرات الآلاف من ضحايا محرقة غزة سيبقون خنجراً في خاصرة الضمير الأوروبي عقوداً. ومن المعلوم أن المصالحة، أو بالأحرى الصفقة، التي جرت بين الحركة الصهيونية والغرب بعد نهاية الحرب العالمية الثانية لم تُفض إلى اختفاء هذه ''المشكلة'' من أوروبا، فقد بقيت حاضرة في اللاوعي الجماعي لمجتمعاتها، على الرغم من وجود تشريعات صارمة تخلط، بشكل مقصود، بين معاداة السامية ومعاداة الصهيونية، بما يصبّ في مصلحة السردية الإسرائيلية.
لم يعد السكوت على هذا الوضع ممكنا بالنسبة لفئات اجتماعية واسعة في أوروبا ترى أنه من العار أن تستمر حكوماتُها في الخضوع لابتزاز إسرائيل، ودعمِها في جرائمها بحقّ الفلسطينيين.
وبقدر ما كشفت محرقة غزّة وحشية دولة الاحتلال وفاشيّتها وعنصريّتَها، أعادت إلى الواجهة شبح ''المشكلة اليهودية'' في أوروبا. ولعل أخطر ما يمكن أن تواجهه مجتمعاتُها، في هذا الخصوص، عودة هذه ''المشكلة'' إلى النقاش العمومي، ومساءلة السردياتِ التي واكبتها منذ نهاية القرن التاسع عشر، في ظل وجود مواطنين أوروبيين من أصول عربية إسلامية باتوا يشكلون ثقلا ديموغرافياً سيكون من الصعب القفز عليه. ومع اتّساع قاعدة مؤيدي فلسطين في أوروبا، تواجه حكوماتُها ونُخبُها خطر أن ترتدَّ ''المشكلة اليهودية'' إليها، بما قد يترتب على ذلك من تداعياتٍ على السلم الاجتماعي والأهلي في بلدانها. ومع الشروخ العميقة التي يُتوقع أن تخلفها محرقةُ غزّة في الضمير العالمي، ستجد هذه الحكومات والنخب، على الأرجح، صعوبةً في إقناع دافعي الضرائب بمواصلة تحمُّل تكاليف الدعم السياسي والإعلامي والاقتصادي والعسكري لدولة الاحتلال، وتبييضِ سجلها الأسود في الإبادة والتطهير العرقي، تكفيراً عن المحرقة النازية التي لا تتحمّل الأجيال الحالية في أوروبا مسؤوليتها الأخلاقية.
أحْيت حربُ الإبادة في غزّة أسئلة الصراع وتعقيداته التاريخيةَ والثقافيةَ، وفضحت تآمر الدول الأوروبية، والغرب بوجه عام، على الشعب الفلسطيني، بإصرارها على إبقاء ''المشكلة اليهودية'' بعيداً عنها، والاستمرار في تحالفها مع دولة الاحتلال لأجيال أخرى، هذا في وقتٍ كان بالإمكان إدماج اليهود في مجتمعاتها بدل التآمر على الشعب الفلسطيني، باغتصاب أرضه واقتلاعه منها بالقتل والتهجير والإبادة.