هل تُربك المقاطعة حسابات فرنسا؟
تجد فرنسا نفسها في موقفٍ لا تُحسد عليه، في ظل المقاطعة التي تستهدف منتجاتها في العالمين، العربي والإسلامي، احتجاجا على الرسوم المسيئة للإسلام. ولا يُستبعد أن تفرز هذه المقاطعة، في حال اتساع رقعتها، تداعياتٍ يصعب التكهن بطبيعتها، ليس فقط لأنها تنصبّ على قطاعات حيوية في الاقتصاد الفرنسي، بل لأنها، أيضا، قد تربك حسابات باريس الإقليمية، سيما أمام ما أبداه الرئيس الفرنسي، ماكرون، من عنجهيةٍ إزاءها، في وقتٍ كان يُفترض أن يكون أكثر عقلانيةً انسجاما مع الطبيعة البراغماتية للسياسة في فرنسا والغرب بوجه عام.
ولعل ما يلفت الانتباه في الموقف الفرنسي كيله بمكيالين في النظر إلى الوقائع وتكييفها؛ فإذا كانت حرية التعبير تجسّد أحد عناوين خطاب الكونية في حقوق الإنسان، فإن حق المستهلك في الامتناع عن اقتناء هذه البضاعة أو تلك يندرج ضمن هذه الحرية، ما دام ذلك يتم بشكل سلمي ومتحضر. فما الذي يخوّل، إذن، ساسةَ فرنسا الحق في أن يطلبوا، بنبرةٍ شبه آمرة، توقيف المقاطعة، ما دامت ضمن هذه الحرية ومقتضياتها؟ ثم من أدراهم بأن الدعوة لها تصدر عن أقلية إسلامية متطرّفة؟
تعيد واقعة الرسوم المسيئة إلى الواجهة الطبيعة المركّبة والمتناقضة لعلاقة الغرب بمستعمراته السابقة. ويمكن القول إن مطالبة فرنسا بتوقيف (وليس توقف) هذه المقاطعة تكشف عن قلقها المتنامي من تطوّر سياسة شعبية موازية ومضادة للسياسة الرسمية التي تجسّدها الأنظمة الاستبدادية الحاكمة على امتداد هذين العالمين، وهي الأنظمة التي تُعدُّ فرنسا راعيةً رئيسةً لها.
مقتل المدرس الفرنسي، صموئيل باتي، على يد شاب مسلم متطرّف جريمة شنعاء، لكن هذه الجريمة لا تنفصل عن الأزمة القيمية والثقافية الكبرى التي تعيشها الجالية المسلمة في فرنسا. ولطالما اعتبرت الحكومات الفرنسية المتعاقبة أن هناك صعوباتٍ جمّة تحول دون اندماج هذه الجالية في النسيج الوطني الفرنسي. لكن هذه الحكومات لم تتبنَّ، يوما، مشروعا متكاملا يفتح المجال أمام ''إسلام فرنسي'' يتوافق مع قيم الجمهورية، ويتصالح مع العلمانية الفرنسية التي أفضت خبرتُها التاريخية إلى حصر الشأن الديني في المجال الخاص؛ إسلام يعيد صياغة العلاقة بين الهويتين الدينية والوطنية لمسلمي فرنسا، في أفق إنتاج هوية فرعية جديدة. ولعل أولى لبنات هذا المشروع فكُّ الارتباط مع المصادر الثقافية للتطرّف، وفي مقدمتها الوهابية السياسية بمختلف تنويعاتها، ووضعُ حدٍّ للاستقطاب الذي تشهده المراكز الإسلامية في فرنسا نتيجة تنافس الدول الإسلامية المؤثّرة على إدارتها والتحكم في مواردها الرمزية، والتوقفُ عن مساندةِ الاستبداد ومقاومةِ المد الديمقراطي.
تتحمّل منظومة الاستبداد التي تدعمها فرنسا، في العالم العربي وغرب أفريقيا وآسيا، المسؤوليةَ في تغذية التطرّف والإرهاب، بسبب تقاعسها عن تحديث أنماط الوعي والتفكير والانتصارِ لقيم الحرية والتعايش والتسامح وتشجيع القراءة النقدية والتاريخية للتراث الإسلامي. هذا الوضعُ يجعل ما تنتجه هذه المنظومة، بمختلف امتداداتها الثقافية والاجتماعية، أحد أهم مصادر التمثلات التي تُشكلها الجاليةُ المسلمةُ بشأن الإسلام. وتتحمّل الدولة الفرنسية مسؤولية هذا الوضع، من حيث عدم جدّيتها في البحث عن مداخل مغايرةٍ لبناء هذه التمثلات، واستمرارها في النظر إلى هذه الجالية باعتبارها عبئا ثقيلا، وليس مكوّنا جديدا (وإن كان وافدا من بيئة مختلفة) من مكونات الوطنية الفرنسية.
بالطبع، لا يعني ذلك تبرئةً لهذه الجالية، إذ لم تبذل نخبُها على مدار العقود السابقة جهودا لتذويب التوتر بين هويتيْها، الدينية والوطنية، وطمأنةِ القوى المحافظة في فرنسا، خصوصا تلك القريبة من اليمين المتطرّف. على هذه الجالية أن تعي أن أبناءها وأحفادها فرنسيون، وينبغي أن يكون ولاؤهم الأول والأخير لفرنسا، من دون أن يعني ذلك، بالضرورة، تفريطا في هويتهم الدينية.
تتعدّد مداخل مكافحة التطرّف والإرهاب، وفي ذلك تتداخل عوامل مركّبة تصبّ، في النهاية، في طبيعة النظام الدولي، سيما في ما له صلة بعلاقة الدول الكبرى بالنخب الحاكمة في العالمين، العربي والإسلامي. وإذا كانت فرنسا جادّة في استئصال شأفتهما، فعليها أن تعمل على إدماج مواطنيها المسلمين، وتُراجع علاقتها بمنظومة الاستبداد، ضمن منظورٍ جديدٍ لمقاربة الشأن الإسلامي ومقتضياته على أراضيها.