هل ثمّة فرصة عربية هنا؟
بمرور الوقت، يتضح، باضطراد، أن الحرب في أوكرانيا ستمثل نقطة انعطاف في السياسة الدولية المعاصرة لا تقل أهميةً ربما عن انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي. شهدت تلك المرحلة، التي استمرت نحو ثلاثة عقود (1991-2021)، تحولات عميقة في بنية النظام الدولي، وعلى مستوى أقاليمه المختلفة. فمع انتهاء الصراع الأيديولوجي الأكبر في التاريخ، برزت الولايات المتحدة باعتبارها قوة أعظم وحيدة في العالم لا يمكن مجاراتها اقتصادياً أو عسكرياً أو تكنولوجياً. وبإعلانها النصر على الشيوعية، فقدت واشنطن اهتمامها بدول عديدة في العالم ومناطقه. أوروبا، التي كانت مسرح الصراع الرئيس مع موسكو، لم تعد تثير اهتماماً كبيراً، وكذلك بدا الأمر بالنسبة لتركيا وباكستان، أبرز حلفاء واشنطن في فترة الحرب الباردة. أما العرب فقد احتفظوا بشيءٍ من الأهمية، مصر بسبب جوارها لإسرائيل، ودول الخليج بسبب النفط. لكن هذه الأهمية النسبية أخذت، بمرور الوقت، تتلاشى أيضاً نتيجة تحول الولايات المتحدة إلى قطب نفطي كبير، وتقلّص اعتماد إسرائيل على الحماية الأميركية، بعد أن صارت قوة عسكرية مهمة بذاتها، فضلاً عن التحوّل الذي طرأ على علاقاتها مع عدد من الدول العربية إلى درجة دخولها في حالة "تحالف" أو تعاون أمني مع بعضها.
توشك أزمة أوكرانيا أن تغير ذلك كله، إذ تخوض الولايات المتحدة معركة كسر عظم مع روسيا تمثل، في أحد وجوهها، عملية تصفية حسابات معها، بعد أن تجاوزت هذه الأخيرة، برأي بعض صقور واشنطن، حدودها، مستفيدة من انشغال الولايات المتحدة واستنزافها في حروب العالم الإسلامي (العراق وأفغانستان والحرب على تنظيم الدولة الإسلامية)، وتمثل، في وجه آخر، مقدّمة لمواجهة أكبر مرتقبة مع الصين. بهذا المعنى، تتحوّل الحرب الروسية - الأوكرانية إلى حرب وكالة صينية - أميركية تأمل فيها واشنطن إضعاف بكين وعزلها من خلال إلحاق هزيمة "بحليفتها" موسكو. إذا فهمنا الحرب الأوكرانية على هذه الصورة، أي باعتبارها مقدّمة لمواجهة كبرى للسيادة على العالم بين محور الصين - روسيا، من جهة، والغرب بقيادة الولايات المتحدة، من جهة ثانية، يمكن أن نفهم عمق التغييرات التي تطاول أقاليم العالم ذات الصلة، ومعها أسواق الطاقة الدولية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بظروف تلك المواجهة، وسوف تحدّد، على الأرجح، نتيجتها.
في هذا الإطار، يمكننا أن نلحظ عودة الاهتمام الأميركي بدول ومناطق سبق لواشنطن أن فقدت اهتمامها بها، ومحاولة لإحياء تحالفات أكل عليها الدهر. انطلاقاً من ذلك، يمكننا أن نفهم جزئياً ملابسات سقوط حكومة رئيس الوزراء الباكستاني السابق، عمران خان، المعروف بقربه من موسكو وبكين، وتنصيب حكومة أقرب إلى التفاهم مع الغرب مكانها، وسعي واشنطن إلى استرضاء الرياض بعد جفاء، وتجدّد الاهتمام الأميركي بكل من تركيا ومصر، وتقلص احتمالات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة الاعتبار الى حلف الناتو .. إلخ. لكن الأهم من ذلك كله هي التحولات المدهشة التي تشهدها بنية سوق النفط العالمية، بسبب الحرب في أوكرانيا، والتي تعد غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية، فبسبب توجه دول الغرب إلى أحكام الخناق على روسيا، يتحوّل اتجاه النفط الروسي نحو الصين مقابل حسوماتٍ كبيرةٍ على الأسعار. وفيما يؤثر هذا التحوّل سلباً على صادرات النفط الإيرانية إلى الصين (المشتري الرئيس للنفط الإيراني الواقع تحت العقوبات الأميركية) يتزايد حضور إمدادات الطاقة من دول الخليج العربية في السوق العالمية، والأوروبية خصوصاً، ما يعني أننا بصدد عودة التلازم بين العلاقات الأمنية والاقتصادية التي تربط دول الخليج بالغرب. لكن الأهم من ذلك حقاً أن مصادر الطاقة العربية عادت لتصبح عاملاً حاسماً في السياسة الدولية، حيث لا بديل عنها في ظل العقوبات المفروضة على روسيا وإيران وفنزويلا، والتي يمثل حجم انتاجها النفطي مجتمعة نحو 20% من إنتاج العالم. وفيما تحاول دول عديدة اغتنام الفرصة لتعزيز مكاسبها في المواجهة الدائرة (لاحظ تركيا مثلاً) يتوارى أكثر العرب عن المشهد لدواعٍ ثأرية طفولية، تحت زعم الحياد. ولو كانت هناك قياداتٌ تمثل حقاً مصالح شعوبها، لسارعت إلى استثمار هذا الظرف الفريد لانتزاع مكاسب تُحدث فرقاً في أحوال العالم العربي السياسية والاقتصادية، ولكن: "ولو نار نفختَ بها أضاءت/ ولكن أنت تنفخ في الرماد".