هل ستختلط الجينات البشرية والحيوانية؟
شاهدتُ مقطعا مصوّرا على تطبيق تيك توك يجمع طفلا آسيويا وقردا (شمبانزي) بحجم الطفل تقريبا، يقتسم فيه الطفل حبّة فاكهة مع القرد، يقشّرها ويعطيه إياها، بينما يتناولها القرد بهدود وهو ينظر إلى الطفل نظراتٍ كلها امتنانٌ وشكرٌ وحبّ. شاهدت المقطع عدّة مرات. ومع كل مرّة، كنت أرى في ملامح القرد بشريا ما، ليس فقط في التفاصيل الشكلانية، بل أيضا في تفاصيل السلوك وردود الفعل، حيث بدا سلوكه وهدوؤه مشابهين جدا لأداء (وسلوك) الطفل الذي يطعمه، حتى أن نظراتهما تكاد تكون متطابقة، النظرة الهادئة اللطيفة نفسها لكن غير السعيدة، ولا تظهر فيها ملامح شقاوة الأطفال، فالطفل يبدو أنه من بيئة فقيرة (غالبا من دول جنوب شرق أسيا)، تدلّ ملابسه وخجله من الكاميرا التي تصوّره على هذا بوضوح. واللطيف أن صديقه القرد يتجنّب مثله النظر إلى الكاميرا، بل يحاول كلاهما الهروب بنظراتهما منها، وكأنهما على اتفاقٍ في هذا الأمر. المقطع، بما فيه من كمية اللطف التي يبثها، دليل متجدّد مؤكّد على أن العلم ما زال مقصّرا في فهم التركيبة الدماغية والجينية لشركائنا في الأرض.
ليس المقطع السابق سوى واحد من مئات آلاف المقاطع والفيديوهات المصوّرة التي توثق سلوك الحيوانات، سواء المستأنسة الأليفة منها أو البرّية والمتوحشة؛ وكلها تؤكّد على كسر بديهيات تتعلق بطبيعة هذه المخلوقات وتركيبة ذاكرتها وقدرتها على التطوّر. يعرف المهتمون أن الكلاب، وبسبب تدجينها منذ آلاف السنين، طوّرت قدرتها على التعبير بخطوط وجهها ونظراتها، أي أصبحت أكثر شبها بالبشر من حيث تعابير الحزن والخجل والفرح والغضب على الوجه، وهو ما لم يحصل مع باقي الحيوانات، ومنها القطط مثلا (أكثر الحيوانات مع الكلاب استئناسا). وهناك اعتقاد شائع أنه لا يمكن تدريب القطط كما يحصل مع الكلاب وتعويدها على سلوكياتٍ معينة. لكن تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي أتاحت لنا معرفة أن هذا الكلام ليس صحيحا دائما، فنحن نرى يوميا أداءات قططية تثبت أن هذه الكائنات الجميلة يمكنها أيضا أن تسلك سلوكا ليس من طبيعتها في شيء بواسطة التدريب، ما يعني أنها تملك ذاكرة عرضية قد تكون قابلةً للتطوّر مع الزمن. ولا ينطبق هذا على القطط فقط، بل حتى الطيور البيتية والحيوانات الأخرى التي تعيش بين البشر، وإنْ بدرجاتٍ أقلّ. من دون أن ننسى هنا تعلق الحيوانات المتوحشة بمربّيها أو مدرّبيها، واحتفاظها بروائحهم في ذواكرها، وتذكّرهم بعد مدد غياب طويلة وإظهار سعادتها برؤيتهم.
لدينا مثل في بلادي "كل شي على بابو بيشبه أصحابو" وكان يقصد به أن الكلاب، التي كانت للحراسة والرعي، تصبح مع الزمن كثيرة الشبه بأصحابها وتتطبّع ببعض طباعهم. يقول لي الأصدقاء إن لقطتي طريقتي نفسها في المشي، ولها طريقة أدائي نفسها في التعامل مع البشر. قد يكون هذا صحيحا، ذلك أنني أشاهد شبها بين طباع بعض أصدقائي وحيواناتهم الأليفة التي تعيش معهم. ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن للحيوانات ذاكرة تحتفظ بالسلوك المقابل وتسعي إلى تقليده، إن كان هذا حقيقيا ففي التقليد استخدام للعقل وذكاءٌ ما، لا يمكن إرجاعه إلى الذكاء الغريزي الذي يظهر في الحفاظ على النوع (التكاثُر والطعام واتقاء الخطر). ولا إرجاعه أيضا إلى سلوك القطيع، بل هو سلوك تطوّر بفعل العشرة والانتباه والتكرار، ما أدّى إلى التعلّم الذي يظهر على هيئة شبه.
ما زال العلم يجهل كيف حدثت تلك الطفرة الجينية التي ساهمت في التطوّر النوعي للبشرية. وعليه، لا أحد يدرك الآن، نتيجة التقارب الكبير بين بعض الكائنات الحية وتشاركها الحياة اليومية بكل تفاصيلها ما الذي يمكن أن يطرأ على الجين البشري أو على جين أنواع من الكائنات الأخرى؛ هل ستتطور الكلاب والقطط مثلا لتبدأ بالمشي على اثنتين بدل الأربع؟ هل ستبدأ بتذكّر اللغة؟ أم سيحصل العكس مثلا؟ سوف يتشبّه البشر بحيواناتهم الأليفة إلى حد عودتهم إلى المشي على أربع؟ نحن عموما نعيش في زمن الغرائب وكسر كل الأنماط المعروفة، فهل من العجب أن تحصل طفرة يختلط فيها جينة البشر مع جينات باقي الكائنات الحية؟