هل وُجد هوميروس حقاً؟
هوميروس، هو "أمير الشعراء" كما لُقّب، وصاحب أشهر ملحمتين في تاريخ البشرية، الأوديسة التي تضمّ قرابة 12 ألف بيت وتروي مغامرات عوليس وهو في طريق عودته إلى إيثاكا، والإلياذة المؤلفة من 16 ألف بيت وتحكي قصة حرب طروادة التي اشتعلت من أجل عيني الجميلة هيلينا. الملحمتان كان لهما صدى واسع جدا في العالم القديم، وهو صدى ما زال يتردّد في أعمال عدد كبير من المبدعين في شتى المجالات، وعبر أنحاء العالم.
ولكن، من كان هوميروس حقا؟ تقول الرواية الشائعة إنه كان شاعرا إغريقيا عاش في القرن الثامن قبل الميلاد، وإنه، كسباً للرزق، كان من أولئك الشعراء المُنشدين الذين كانوا يجولون في مدن حوض البحر المتوسط، ليُسمعوا أشعارهم التي كانوا يُنشدونها وهم يعزفون على آلةٍ موسيقيةٍ شبيهة بآلة القانون، في أثناء المآدب والاحتفالات التي كان أبناء الطبقة العليا يقيمونها. هذا وتُجمع المصادر على أن هوميروس كان أعمى، وأنه، بافتقاده حاسّة البصر، اكتسب موهبة الشعر التي كانت تتيح له أن يرى أبعد من الناس العاديين وأن يقترب من الآلهة، مثله مثل ديمودوقس الذي أنشد أمام عوليس، فكان أن "أخذت ربّة الشعر عينيه ولكنها أعطته عذوبة الإنشاد" (الأوديسة)، في حين علّل آخرون عماه بانتقام هيلينا منه، بعد أن جرّسها وكشف تفاصيل حياتها في ملحمته ذائعة الصيت.
هذا ما ظللنا نعرفه عن هوميروس، حتى مجيء القرن السابع عشر، حيث راح البحّاثة والمؤرّخون يميلون إلى اعتبار الملحمتين ثمرة تقليد شفاهيّ أعاد الشاعرُ الإغريقي جمعَه ونظمه بطريقةٍ مبدعة أبرزت موهبته الاستثنائية وأسلوبه المتميز الخاص. بيد أن البريطاني صمويل باتلر، كآخرين، ذهب في كتابه "مؤلّفة الأوديسة"، إلى اعتبار أن هوميروس هو في الحقيقة الاسم المستعار لامرأة، وتحديدا أميرة من صقلّية "عزباء وذات عزم"، نقلت ما تتمتّع به من قوة إلى نساء الملحمتين. ففي الأوديسة، على سبيل المثال، لا يمكن لنساءٍ بقوة شخصية الساحرة سيرسيه والملكة بينيلوب والأميرة نوزيكا، إلا أن يكنّ من نتاج مخيّلةٍ نسائية. من جانبه، كتب الأديبُ الفرنسي غوستاف فلوبير في "قاموس الأفكار الجاهزة" أن "هوميروس لم يوجد أبدا"! واعتبره الأتراك تركيّ المولد طالما أنه ولد في سميرنا (إزمير حاليا). كما أدرج المؤرخُ هيرودوت الذي أضاف أنه من والد مجهول، في حين علّق أرسطو قائلا إنه ابن الإله أبولون ... باختصار، ثلاثة آلاف عام من التاريخ حوّلت الرجلَ أسطورةً، بما يعنيه ذلك من اختلاط الوقائع بالمرويات المتناقضة والافتراضات.
ولكن، مرّة أخرى، من كان حقا هوميروس، وهل وُجد فعلا؟ بعد الاطّلاع على ما توصّل إليه عالمو الآثار ودارسو العصر الهيلليني وعلماء فقه اللغة، يميل الافتراض إلى أن هوميروس عاش في فترة اختراع الأبجدية اليونانية، أي منذ نحو 2700 عام، في آسيا الصغرى. ففي الإلياذة، هو يشبّه أصوله باتجاه الهواء والعصافير على الساحل الشرقي لبحر إيجه. لكنه ينتقل فجأة في الزمن، فيصف مراسم دفن باتروكل كما كانت تُجرى في القرن الحادي عشر قبل الميلاد. وبذا، لا يمكن أن يكون قد عايش الفترتين، إلا إذا كان هنالك أكثر من هوميروس واحد! وبالفعل، فرض هذا الاحتمال نفسه على المؤرّخين الذين انتهوا إلى أن الملحمتين، وإن عادتا إلى شاعر واحد، فهما قد عُدّلتا واغتنتا تباعا، خلال مختلف الحقب والعصور، وذلك في أثناء انتقالهما شفويا. هذا ويورد مترجم الملحمتين إلى الفرنسية واختصاصي العصر الهيلليني، دو لا كومب، الذي أصدر بيوغرافيا عن الشاعر (2018)، أن الاسم هوميروس هو في الواقع لقبٌ كان يُستخدم باليونانية القديمة لتسمية من يجمع وينسّق ويوائم، كما أنه كان يعني أيضا "رهينة" و"أعمى".
أخيرا، الأمر المؤكّد الوحيد أن أعمال هوميروس (الفرد/ الأفراد/ المجموعة) قد دُوّنت كتابيا بدءا من القرن الثامن قبل الميلاد، وأنها نتاج موهبة فذّة جعلتها تجتاز برشاقة القرون إثر القرون.