هِبة تروي عن ضابط مخابرات ثم تستشهد
كأنه كان على الشاعرة الفلسطينية، هِبة أبو ندى، المنحدرة من قرية بيت جرجا (جيّد أن نعرف اسم هذه القرية) في الأراضي المحتلة 1948، ومن أسرةٍ لاجئةٍ في غزّة، المولودة في 1991، أن تستشهدَ في العدوان الإسرائيلي المتوحّش الجاري على أهل القطاع، لنقرأ روايتَها الأولى "الأكسجين ليس للموتى" (دار ديوان للنشر والتوزيع، الكويت، ط2، 2021). وجيّدٌ أن نعتبرها أولى رواياتها، وليست الوحيدة لها، لأن هِبة (لها ثلاث مجموعاتٍ شعريةٍ منشورة) ربّما كتَبت غيرَها، ثانية وثالثة، وأوْدت بهما صواريخ المحتلّين الغادرة. لم يكترث بهذه الرواية نقد النقّاد الكسول، ولم تتناولها الصحافة الثقافية العربية بإضاءاتٍ تًعرّف بها جيّدا، بسويّتها الفنّية، وأيّ مؤاخذاتٍ عليها، وأي مواضع تميّزٍ فيها. بل يقتُل هِبة، يوم الجمعة الماضي، جنونُ آلة الحرب الإسرائيلية في غزّة، فتلقانا نقرأ في مستعْجلاتٍ صحافيةٍ إن الرواية تنشغل بعنصريّة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، وإنها تُوازي هذا بتصويرها الاستبداد في العالم العربي، وصولا إلى انتفاضات العام 2011. وفي هذا الكلام الذي تكرّر ضعفٌ وبؤسٌ كثيران. ولعلّه يعود إلى التعريف المخلّ بالرواية الذي أذاعته دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة لمّا فاز هذا العمل بجائزة العمل الإبداعي الأول (المرتبة الثانية) في 2017. وهو مخلّ، لأن الرواية (نحو 400 صفحة) تخلو تماما من أي إشارةٍ إلى فلسطين، وإلى أي بلدٍ عربي، وإلى أي ثورةٍ أو انتفاضةٍ عربية.
وإذا كان لقارئ "الأكسجين ليس للموتى" ان يأخُذَ عليها استرسالا في غير موضعٍ، ومصادفاتٍ في وقائع متتابعةٍ ليست مُقنعةً غالبا، إلا أن هذين الأمريْن (وغيرهما ربما) لا ينفيان براعة هِبة أبو ندى في عبورها الجوّاني في شخصيّاتها، وفي مغامرتها الخاصّة عندما تنشغل بضابط مخابرات (اسمُه آدم) ودواخِله، وقلقِه، واضطراباته النفسية، ومساءلاتِه نفسَه، وتحوّلاتٍ في حشاياه، ومحبّة زوجته له، وهي التي اقترنَ بها بعد شفائه النسبي مما صار عليه حالُه عقب انتحار عروسِه الأولى في يوم زواجِهما، وتُبنى الرواية بضميرِه المتكلّم (باستثناء مساحاتٍ قليلةٍ لغيرِه)، وهو نجل وزيرٍ للداخلية يقضي اغتيالا. وكذلك في أن هِبة تصنع سردا يتناسلُ من بعضِه بإيقاعٍ يدلّ على خبرةٍ لديها في القصّ والحكي. وأيضا في تجهيلها المُتقن الفضاءين المكاني والزماني، فأنت لا تعرف في أي بلدٍ أو بلادٍ تحدُث وقائع الرواية، هناك ميادينُ وشوارع، وثوارٌ يردّدون قصيدة أبي القاسم الشابي، وليس مطلعها إياه فقط "إذا الشعب يوما أراد ...". إنما أين؟ ولمّا كنتَ تلحظ استخدام شخصياتٍ في هذا العمل السردي هواتف نقّالة، فإنك لا بد ستخمّن أنه زمن قريب. وإذ يحضُر خيطٌ بوليسيٌّ نوعا ما في السرد المتتابع عن عدّة شخصياتٍ تلتقي مصائرُها مع بعضها وتتجاور، أو تتباعد، فقد يجيزُ هذا لبعضهم (لستُ منهم تماما) نسبة الرواية إلى الأدب البوليسي، فإن هذا أمرٌ يُضاعف من سويةٍ متقدّمةٍ لهذا العمل الذي لا يتزيّد صاحب هذه الكلمات لو رآه مفاجئا، بل ومفرحا أيضا، نمّ عن اقتدار كاتبتِه، في نصٍّ روائيٍّ أول، على مكابدة أكثر من مغامرةٍ، على صعيد الكتابة وجماليّاتها، واحترافها من قبلُ ومن بعد، ونجَحت في غير أمر.
مصدر المفاجأة والفرح أن هِبة أبو ندى تحمل شهادة جامعية في الكيمياء الحيوية، ونشطت في العمل التربوي، مع الأطفال، وعملت في مركزٍ تعليمي لهم. وهناك في غزّة التي قالت الشاعرة الغزّية، هبة صبري، إن ثمّة معاناةٌ مضافة، لا تقلّ أسىً عن أنواع أخرى من المعاناة، "غياب حرّية الاختيار والسفر والتنقل". وامرأةٌ هناك على كفاءةٍ ظاهرةٍ في بناء معمارٍ روائي، أفاد من مساحاتٍ رحبةٍ من التخييل، على ما يؤشّر إنجاز "الأوكسجين ليس للموتى"، لم يتيسّر لها شيءٌ من هذه الحرية، وكابدت من أجل تحقيق ذاتها، ولجأت إلى الشعر، وتمثّلت شخصية ضابط مخابراتٍ، ونطقَت باسمه، وتمكّنت من تخيّل مكتبه ومنزله وإيقاعات نهاراتِه ومساءاتِه، ووازت هذا كله، وغيره، بتخيّل شخصياتٍ غير قليلة، أحدها شابٌّ ثائر، ترك ما يشبه المذكّرات، واستطاعت أن تصوّر علاقات حبٍّ إنسانية، ودافئةٍ وأنثوية، بين شبكةٍ من خيوط القصّ في أجواء موصوفةٍ بالقلق، حيث البلد تغشاها ظروفًُ غضب الناس من الحاكمين وأهل السلطة. ولا تتعيّن جغرافيا عربيةٌ مخصوصةٌ لهذا كله، وإنما نقرأ في قفلة الرواية، في آخر سطورها يقول أحد شخصياتها الكثيرة "الثورات لا تتوقّف، تخمد قليلا، وتعود في دورتها الكونية المطلقة".
رحم الله الشهيدة هِبة أبو ندى، فقيدة الرواية الفلسطينية الواعدة.