ورحلت نور القحطاني كإغماضة وافرة
... ورحلت نور القحطاني، "خَدِينة الليل ومحبرة السواد الجليل"، الفتاة التي تميّزت بروح عصيّة على السكون، رغم حكم الغياب الذي صدر عليها مُبكّراً لظروف كثيرة. كان المرض هو الرفيق الأوّل، وكانت الإعاقة هي الاتكاءة الأولى في سياق ثقافي كان للتوّ يكشف مساراته الجديدة عبر شبكة الإنترنت. ولأنّ نور كانت تجيد الانغماس في كل واقعٍ تجد نفسها فيها إجباراً أو اختياراً، فكانت الحاضرةَ الفاعلةَ المساهمةَ المشاركةَ المؤسِّسةَ الشاعرة، وكانت كلماتها تنهمر في فيوضٍ من المحبّة والدهشة كطفلةٍ تمارس الاكتشاف في كلّ لحظة من لحظات حياتها.
لم تكن نور تريد أن تكبُر، ولم تكبُر أبداً، وحتّى النهاية. عندما كلّمتني آخر مرّة قبل رحيلها الأبدي، كانت هي نفسها التي كلّمتني أوّل مرّة قبل 30 عاماً تقريباً.. الصوت الهامس، والبحّة الأنيقة، والضحكة الخجول، والأمنيات الكبيرة.. وكان الشعر، كالعادة، مادَّةَ الحديث الطويل. ولم يستغرق ما خصّصناه من حديثنا الطويل للمرض ولمراحل العلاج ولنقل الدم وللأشعّة إلّا القليل جدّاً، كالعادة أيضاً.
تآلفت نور مع أوجاع الجسد، فلا تذكرها، رغم أنّي أعرف تماماً أنّها كانت في ازدياد. تسألني عن كتابٍ جديد، وتُبدي رأيها في الغلاف. قالت إنّه مُضحِك. كيف مُضحِك، يا نور؟... ضحكت ضحكتها الهامسة المكتومة كعادتها، لتريني كيف أنّ الغلاف مُضحِك. ضحكتُ معها قبل أن أسألها عن أخبار الساحة الثقافية. أعرف أنّها تعرف كلّ شيء، حتّى وهي بعيدة عن كلّ شيء، وأعرف أنّها تعرفني جدّاً عندما بدأتُ بما يُهمُّني من أخبارٍ وحكاياتٍ وإشاعاتٍ ووشايات صغيرة.
أستمتع جدّاً بمكالمة نور، وتقول إنّها تستمع أيضاً بمكالمتي، حتّى إنّنا نتواعد قبلها تحضيراً لمكالمةٍ طويلةٍ جدّاً. ونور التي تعرّف نفسها دائماً بقول شعري مُجتزَأ من إحدى قصائدها تقول فيه: "أنا المشكولة بالضمّ والمنسدلة كإغماضة وافرة"، أغمضت قبل أيّام عينيها إغماضةً وافرةً وأخيرةً في رحاب الصبر واليقين النهائي. كبر الأمل كثيراً، ولم يعد للألم الذي قاوَمَته سنواتٍ طويلةً من حياتها معنى.
ساهمت نور بتعزيز الحركة الأدبية والشعرية في الكويت والوطن العربي، في زمن المُنتديات الثقافية، وكانت، رغم ظروفها الصحّية القاسية، صوتاً صادحاً بالفرح والشعر والإبداع والحُبّ والصداقة للجميع.
حين أسّست نور مع الروائية بثينة العيسى منتدى أدبياً ثقافياً بعنوان "مدينة على هدب طفل" في عام 2003، بدا مختلفاً في شكله واسمه ومضمونه عن المُنتديات الأدبية كلّها آنذاك. رأست نور تحرير المُنتدى وتفرّغت له، وسرعان ما اشتهر بمشاركة مجموعة كبيرة من المبدعين العرب، فنوقشت فيه كثير من القضايا الثقافية والأدبية، وكان حضناً دافئاً لتجارب إبداعية جديدة كثيرة.
كما شاركتْ نور بإدارة موقع الشاعر قاسم حدّاد الشهير؛ "جهة الشعر"، والكتابة فيه ورفده بكثير من المواد الشعرية والقصصية والنقدية، كما شاركت في منتدى جسد الثقافة، وفي شظايا أدبية، وفي منتدياتٍ ومواقعَ ثقافيةٍ أخرى.
ومع أنّ نور تعاونت مع بعض الصفحات الثقافية في الصحف الكويتية، وكانت تزوّدني (عندما كنت أحرّر الصفحات الثقافية في صحيفة القَبَس) بمقابلات صحافية مع المبدعين، إلّا أنّها عزفت عن نشر قصائدها، وكانت بالكاد قد وافقت على نشر بعض قصائدها في كتابي الذي ألّفته عن الحركة الشعرية في الكويت بعنوان "حداة الغيم والوحشة"، منها قصيدتها الجميلة "عتمة مبصرة"، التي كنت أرى فيها ترجمةً لحياتها كلّها. تقول نور في بعضها: "ها هي العتمة تأسرك/ أيّها المُترّبص بالمداخل/ العتمة المبصرة/ خَدِينة الليل ومحبرة السواد الجليل/ العتمة المقدامة التي تفتح الأبواب/ وترشرش الضوء على العتبات/ واقفة بهيبة الظلّ الذي يصعد في نسغ الأرواح/ أنظر من الداخل إليك/ يا من سوّرتني في ضلالك البعيد/ يا من سوّرت قلائد فرحي/ وأطلقت خيولي في بيدائك/ أنظر/ ولا أحجم عن الهتاف باسمك الذي يُحمد كالبحر/ أنا المشكولة بالضمّ/ والمنسدلة كإغماضة وافرة/ عتمتك".
رحم الله الشاعرة الكويتية المبدعة نور القحطاني، وأسكنها فسيح جنّاته.