ورقة نقدية
بعد غياب سنوات طويلة عن زيارة مصر، عُدت إليها في الصيف الفائت، لأكتشف أنّ الورقة النقدية الأكثر قيمةً قد أصبحت ذات فئة المائتي جنيه. وبشأن غيرها، أنت تشعر بأنّك تمسك ببعض أوراق اللعب التي لا تفيدك بشيء، سوى وهم تزجية الوقت. وهكذا شعرت بالغلاء والتضخم الاقتصادي ومدى الفقر وتدنّى مستوى المعيشة الذي تعيشه غالبية الشعب، حتى خرج إلى دور العرض فيلم يحمل اسم تلك الورقة "200 جنيه". وهو ليس الفيلم المصري الأول الذي يحمل اسم ورقة نقدية، ففي 1946 أنتج فيلم "الخمسة جنيه" الخيالي، قصة وحوار السيد بدير، ولا يمكن الادعاء أن الفيلم الجديد تقليد له أو تكرار عنه، إنما يمكن القول إنه استكمال متسلسل للتحول الاجتماعي والاقتصادي في مصر منذ ذلك الوقت.
شدّتني في حكايات الفيلم الثماني المتصلة المنفصلة حكاية خاصة، تكشف الحقد الطبقي أو التفاوت الطبقي ونظرة كل طبقة من المجتمع إلى الطبقة الأخرى، وقد جسّدها الممثل المبدع خالد الصاوي. ويبدو أن هذه الحكاية منتشرة في معظم المجتمعات العربية، مع اختفاء الطبقة المتوسطة وانحسار طبقات المجتمع ما بين الطبقتين الفقيرة والغنية. وفي هذه الحكاية التي ظهرت ضمن حكايات الفيلم، نجد الأب الذي يحاول أن يتدبّر مصروفات الجامعة الخاصة لابنه. ولذلك يلجأ لبيع خاتم ثمين لزوجته ويدعي أمام الصائغ أنه لم يعد يعجب زوجته وسوف تأتي قريبا لاختيار خاتم آخر يرضي ذوقها، ولكنه، في الحقيقة، اتفق مع زوجته على بيع الخاتم لتدبير مصاريف الجامعة لابنهما، واستبقى الأب مبلغا صغيرا في جيبه، يعد صغيرا في نظره (ألف جنيه) لكنه يعد ثروة بالنسبة للخادمة التي جاءت لتنظيف بيته الفخم الواسع بأجر يومي، وهي التي دار بينها وبين صاحب البيت حديث داخلي، أظهر حقد كل واحد على الآخر أو غبطته. وفي الواقع، كانت الخادمة تحقد بشكل كبير على سيد البيت، فيما كان يغبطها صاحب البيت، معتقدا أن مشكلاتها بسيطة، وتحلّ بمبلغ الألف جنيه الذي وضعه في جيبه مصروفا شخصيا، فيما تتطلب الحياة المرفهة التي يجب أن يحافظ عليها مع عائلته مالا كثيرا لم يعد متوفرا لديه، ولكن يجب أن يسعى لكي يحافظ على "البريستيج" أو الهالة المزيفة المحيطة به. ولذلك، اضطرّ في هذه المرة لبيع قطعة مصاغ لزوجته، ولا يدري ماذا سيفعل في المرة المقبلة.
يظهر الحوار الداخلي بين طبقتين الفوارق الاجتماعية المسكوت عنها، والتي لا تحاول الحكومات تقليلها وإذابتها، ما يعني تولد مزيد من الحقد الطبقي، وظهور الجرائم المتنوعة والمتفاوتة، ومنها السرقات بالإكراه والتحرّش والاغتصاب، فمثل هذه الجرائم الفردية، والتي تحدث غالبا في أوقات متأخرة من الليل، لا تنمّ إلا عن قهر إنسان مسحوق من إنسان آخر، يعتقد أنه يملك كل شيء، مثل اغتصاب مجموعة شبان عاطلين فتاة ثرية، قادها حظها العاثر إلى مكان مظلم، مثل نفاد وقود سيارتها. وبالطبع، ليس الغرض من الاغتصاب إشباع رغبة أو شهوة، بقدر ما هو انتقام من مجتمعٍ لم يسعَ إلى سد الفجوة بين طبقاته.
في الحكاية، اللافتة بالنسبة لي، تحقد الخادمة على "محسن بيك"، وهي تتخيل أن ثمن هاتفه المحمول سوف يوفر لها بعض الأساسيات لتجهيز ابنتها الموشكة على الزواج، فيما يرى الأب المتعثر ماليا أن المبلغ الذي سيدفعه للخادمة سوف يكفيها ويزيد، ومن ضمنه الورقة النقدية فئة المائتي جنيه، وهي التي تروي قصة حياتها من خلال التنقل من يد إلى يد، وأول يد أمسكت بها هي يد أرملة مطحونة لم يتردّد ابنها العاطل عن سرقتها. ويجيب الفيلم، في النهاية، عن تساؤل لطالما سألته لنفسي، كلما أمسكت ورقة نقدية، وتمنيت لو أجابت عنه، وهو عدد الأيدي التي أمسكت بها قبلي، وشخصيات أصحابها وظروفهم وأماكنهم.