ورق التوت في غزّة
كانت المرّة الأولى التي اكتشفت فيها عظمة شجرة التوت العملاقة ذات الأوراق الكبيرة في بيتنا العتيق في مخيم خانيونس في جنوب قطاع غزّة. كنتُ وقتها مثل كل الأطفال الفضوليين، فلا يمكن أن يمرّ أي موقف من أمامي من دون أن أحاول تفسيره، وإنْ كانت معظم تفسيراتي خيالية، وظلت معي حتى سنوات متقدّمة، إلا أن ذلك لم يمنع أن أكتشف، على سبيل المثال، أن شجرة التوت منقذة، وكان أن أجهضت أمّي جنينا في باحة بيتنا، ولم تشعر جدّتي بالارتباك ولو لحظةً، بل لفّته بخرقة نظيفة، بعد أن تدحرج من رحم أمي فوق الأرضية المشقّقة. وحفرت، بمساعدة جدّي، حفرة عميقة تحت شجرة التوت العملاقة التي تحتلّ منتصف الدار، ودفنا معا الجنين. وجلست جدّتي بجوار الحفرة المطمورة وقتاً خلتُه دهراً، وهي تتنهّد وتتمتم، ثم جرّت ساقيها لتعتني عناية بدائية بأمي، حيث كان وقتها الذهاب إلى المستشفى في حالة بسيطة مثل هذه الحالة ترفا.
اكتشفتُ أن شجرة التوت العملاقة تحفظ الأسرار، وتخفي تحتها الأطفال الذين لم تكتمل دورة نموّهم، وصرت أنظر إلى كل شجرة توت أراها أمامي وأنا أتجوّل في المدينة وأحيائها وكأنها صديقتي، حتى صرتُ قارئة نهمة. وصار يتردّد أمام ناظري مصطلح "وسقطت ورقة التوت"، لأكتشف أنها كناية عن انكشاف المستور. لذلك، كان عليّ أن أتأمّل ورقة التوت جيّدا، فأراها ورقة ضخمة تزيد عن حجم كفّ اليد، ولكنها تشبه الكفّ لأنها تتفرّع، في نهايتها، لفروعٍ تشبه الأصابع. ولضخامتها، كان القدماء يسترون بها عوراتِهم قبل اختراع الملابس، ولأن عورة الإنسان أهم ما يمكن للإنسان أن يغطّيه عن أعين الآخرين، ويشعر بالخزي والعار لو انكشف أمام الغرباء، فقد حملت ورقة التوت معنى الستر، وسقوطها يعني عكس ذلك.
وعرفت معنىً آخر للستر الذي تقوم به شجرة التوت بثمارها اللذيذة، وليس أوراقها فقط، حين تعثّرت بشجرة توت أضخم من شجرة التوت التي كانت في بيتنا في المخيّم. وذلك في بيت سيدة مكافحة، وبعد أن صرتُ أمّاً لعدة أطفال، وأخبرني أولادي أن الصبية في الحي يبتاعون ثمار التوت الشهية الناضجة من شجرة ضخمة تقع في منتصف بيتها، كما كانت شجرة بيتنا الأول، فهرعتُ لأرى تلك الشجرة بحجّة شراء كمية كبيرة من ثمار التوت، وكنتُ أهرع نحو البيت القابع في منطقة أخرى من المدينة لا تقلّ فقرا عن مخيم اللاجئين الذي ولدت فيه، حتى إذا ما حاولت أن أطرق باباً صدئا كان مفتوحاً من الأساس، شعرتُ بأنني سأرى، بعين خيالي، آثار حفرة تحتها قد طُمرت للتو، وقد احتوت قطعةً تشبهني، كان من الممكن أن تكون أختاً وأخاً لي.
عرفتُ، في بيت السيدة المسنّة الفقيرة، أنها تبيع التوت الناضج الشهيّ في موسم التوت حتى إذا ما انتهى الموسم جمعت القروش وأرسلتها إلى ابنها الذي يدرس في كلية الطب في القاهرة، حتى مرّت السنوات، ورأيت اسمه فوق يافطة عملاقة، وبجوار اسمه رسمٌ جميلٌ لورقة توت.
اليوم في غزّة، أصبحت أوراق التوت ساترة لأهلها من الجوع، فقد استغلّوا موسم الثمار فاحتالوا على المجاعة التي تدكّ بطونهم، وجمع الرجال والأطفال الأوراق فغسلوها ثم سلقوها بماء ساخن لكي تلين، وحشت الأمهات تلك الأوراق بحبّات الأرز المضاف لها بعض البهار، ثم لففن تلك الأوراق على شكل أصابع أحكمن إغلاق طرفيها، لكي لا تقع منها حبّات الأرز حين تنضج. وأصبحت أوراق التوت المحشوّة بالأرز وجبة بديلة عن أوراق العنب التي تتفنّن النساء عامة في إعدادها، ولكن في زمن الرخاء والسلام، وحيث يُضفن للأرز بعض اللحم المفروم، ويُضفن قطعا أكبر من اللحم أو أفخاذ الدجاج بين صفوف الأصابع المرصوصة في إناء الطهي.
لا تشبه أوراق التوت المحشوّة بالأرز، والمطبوخة فوق نار الحطب، أي طعام، فلا لذّة ولا نكهة، ولكنها تستر البطون من القرقرة جوعاً. ولذلك، لا تتوقّف أوراق التوت عن أداء مهمّة الستر كما عهدناها في تلك الناحية من غزّة التي تنهشها المجاعة.