وهم الغزو الأميركي الجديد للعراق

29 اغسطس 2023
+ الخط -

أثارت التحرّكات الأميركية أخيراً في المنطقة، خلال الأسابيع الماضية، لغطاً كثيراً بين المراقبين والمتابعين العراقيين، داخل العراق وخارجه. وهي تحرّكات، كما يرى مراقبون، ستؤدّي إلى زيادة عديد القوة العسكرية الأميركية في شرق سورية وفي منطقة الخليج العربي.
تعامل طرفان مع هذه الأنباء والمعلومات بمبالغة وصخب أكثر من غيرهم على مواقع التواصل الاجتماعي. حيث تداعت حساباتٌ خاصة ببعثيين عراقيين، أو مدوّنين مقرّبين من رجالات النظام السابق، لتصوّر هذه التحرّكات استعداداً لغزو أميركي جديد للعراق، يستهدف إسقاط النظام الحالي. وهذا ما جعل بعضهم يستعيد تصريحات نارية للنائب السابق في البرلمان فائق الشيخ علي، الذي ادّعى في لقاء تلفزيوني في يوليو/ تموز 2022 أنّ نهاية النظام الحالي ستكون عنيفة، وسيحدُث تغيير كاسح في أواخر العام 2023 أو بداية 2024. ولم يكشف الشيخ علي، في وقتها، عن مصادر معلوماته، ولم يقدّم أي مستندات تعزّز "نبوءته" سوى الادّعاء المرسل، الأمر الذي جلب عليه موجة من السخرية، مصحوبة بحماسة بعض الحالمين الساخطين من سوء الوضع الحالي.
المثير في تهليل البعثيين والمقرّبين من نظام صدّام حسين وحفاوتهم أنهم يتناسون تماماً أن هذه القوّة التي يعوّلون عليها في إحداث التغيير المرتقب في العراق هي نفسها التي أسقطت نظام صدّام، وخاض حزب البعث وأجهزة النظام المنحلة حرب عصابات، سنواتٍ، ضد القوات الأميركية الغازية، فكيف تحوّلت هذه القوات اليوم إلى أداة خلاص وإنقاذ؟!
الطرف العراقي الآخر الذي استثمر أنباء التحرّكات الأميركية يتمثل في الأطراف السياسية والمليشياوية المقرّبة من إيران في العراق، فهي تتهم الولايات المتحدة بأنّ لها نوايا لعمل عسكري في العراق. ولهذا السبب، تمارس ضغوطاً إعلامية وسياسية على حكومة محمد شيّاع السوداني لدفعها إلى اتخاذ موقف متشدّد إزاء التحرّكات الأميركية.
يوضح الباحث منقذ آل داغر، في مقال نشره على موقعه على الإنترنت، أن هدف هذه التحرّكات زيادة أعداد القوات الأميركية شرقي سورية للوقوف بوجه تنامي نشاط التحالف السوري الروسي الإيراني في هذه المنطقة، ودعماً لـ"قوات سوريا الديمقراطية" (الكردية). كما أن زيادة هذه القوة في منطقة الخليج تستهدف أيضاً النشاط غير المرغوب به لإيران، وما يمثّله من تهديد لمصالح دول المنطقة.
في كلا التحرّكين، لا يبدو أنّ لأميركا نوايا للحشد العسكري ضد العراق، فضلاً عن أنّ الفكرة غير منطقية لأسباب عديدة، فالسفيرة الأميركية ألينا رومانسكي قالت، بوضوح، في أكثر من مناسبة، إنه لا تهديد أميركياً للوضع الحالي في العراق. بل بالعكس، تشير تصريحاتها المتكرّرة إلى دعم حكومة السوداني في جهوده الإصلاحية، ودعم القطاع المصرفي العراقي ومحاربة الفساد وتهريب العملة. وهي مستمرّة في حركتها الملفتة ما بين الزعامات السياسية ومكاتب الوزراء العراقيين، بل لم تمانع تسجيل فيديو ترحّب به بشراء طائرة مدنية أميركية انضمّت لأسطول الطيران العراقي.
في ما يتعلق بالبعثيين العراقيين، هم، في حقيقة الأمر، يهتمون بأي خبر يزعج حلفاء إيران داخل العراق، حتى لو كان هذا مجرّد شائعات عن غزو أميركي جديد للعراق. أما الطرف الموالي لإيران في العراق، فلا شأن لانزعاجه من التحرّكات الأميركية بمصالح العراق، وإنما لأنّ هذا الوجود المتزايد للقوة العسكرية للولايات المتحدة سيقطع خطوط الإمداد الإيرانية، عبر العراق، باتجاه سورية. ويعرف هذا الطرف تماماً أنّ النظام السياسي في العراق يحظى بدعم ورعاية أميركيين بأكثر من طريقة ووسيلة، حتى مع معرفة الولايات المتحدة أنّ العصب الأساسي للنظام السياسي العراقي هو هذه القوى المقرّبة من إيران.
تتجاهل هذه الأطراف الفرصة التاريخية المتاحة أمامها لإعادة تأهيل نفسها سياسياً في الشارع العراقي، استثماراً لأجواء الحياد في المنطقة تجاه العراق والدعم الأميركي الصريح. وتُفضّل، للأسف، بدلاً من ذلك جعل نفسها أداةً في نزاعات إيران وصراعاتها داخل المنطقة.