يحدُث في أفريقيا
كثيرة تساؤلات المحللين السياسيين بشأن الانقلابات العسكرية في القارّة الأفريقية أخيرا...، هل يتعلق الأمر بموجة على غرار الموجات التي عرفتها عدة بلدان عربية في ربيعها الذي انقلب إلى خريف مأساوي، بعدما تدخّلت أياد خبيثة لوأدها، ولإرجاع الأوضاع أسوأ مما كانت عليه؟ أم أنها موجة ناضجة هبّت بعد طول انتظار من أبناء الشعوب المقهورة، علها تنعتق من ربقة العبودية الناعمة، التي ظلت متخفّية أجيالا طويلة، بعدما خلفت العبودية الواضحة الشنيعة التي دامت عقودا وقرونا، حيث جعلت من القارّة السمراء ضيعة لها فيها ماؤها ومرعاها، واتّخذت من ساكنتها عبيدا يخدمونها بالمجّان، ويعطونها من دمهم ولحمهم وثروتهم الظاهرة والباطنة، كي يتمتّع الفرنسيون بالبذخ والنعيم متستّرين تحت غطاء اتفاقيات الصداقة والشراكة والتنمية، وهلم جرا من التسميات الرنّانة التي لم تنتج لهذا الطرف سوى البؤس ومزيد من التبعيّة والعوز، ولذاك الطرف، الزيادة في الخيرات والرخاء، فما أن أخذت هذه الدول استقلالها (المغشوش؟) في أثناء الستينيات، حتى كانت فرنسا
الديغولية لها بالمرصاد، حيث نصّبت نفسها عليها أمّا روحية، وجعلت عاصمتها باريس قلبا ضخما نابضا يضخّ الدم الفرنسي في شرايين أجسادها وأرواحها العائمة في الجهل والتخلف. وهكذا، رسّخت فيها لغتها وسيّدت ثقافتها وثبّتت عملتها وربطت مصيرها بمزاجها، إلى أن ظلت كما كانت على امتداد أجيال طويلة مجرّد مقاطعاتٍ تحت وصايتها، تنهب خيراتها بدون حسيب ولا رقيب. ولكي تضمن استمرار قبضتها الحديدية عليها أطول وقتٍ ممكن، نصّبت على هرم السلطة فيها من يدينون لها بالتبعية الكاملة والولاء المطلق. وقد قال في ذلك رئيس الغابون الأسبق، عمر بانغو، كلمة مأثورة تلخص كل شيء: "الغابون بدون فرنسا سيارة بدون سائق، وفرنسا بدون الغابون سيارة بلا وقود..".
فرنسا التي أقامت بنيات حداثية شكلية لم تغير وضعية هذه البلدان، بل جعلتها أسيرة لها للتغطية على ما سطت عليه من مناجم وموارد وخيرات. ولكي تضبط وتيرة هذا "التحديث"، وتجعله يتماشى موازاة مع مصالحها، غضّت الطرف عن التجاوزات الصارخة لدماها المتحرّكة لحقوق الإنسان، وتعامت عن استعبادهم شعوبهم، وباركت سعيهم الحثيث إلى مصّ خيراتهم بالاستغناء الفاحش والتبذير الأحمق لتلميع صورتهم النرجسية المصابة بجنون العظمة. ونموذج ضابط الصف المتواضع موبوتو سيسيكو الذي نصّب نفسه جنرالا ثم إمبراطورا ليس عنا ببعيد. كما تعمّدت ترك حدود مستعمراتها القديمة غامضة ومعلقة، ما جعل منها أشبه بقنابل موقوتة لاستثمارها لاحقا من أجل إثارة الفتن والحروب بين الجيران الأشقاء، تطبيقا للمقولة الشهيرة "فرّق تسد".
هل ستكون الانقلابات التي تقضّ مضاجع رؤساء أفارقة بشارة خير على الشعوب الأفريقية؟
وفي دليل واضح على ما نقول، ها نحن ما زلنا نكتوي مع أشقائنا الجزائريين بهذه المعضلة التي شتّتت شملنا وخيّبت آمالنا وجعلتنا نصرف أنفس ثرواتنا في تطعيم معامل أسلحتها لشراء أسلحة فتّاكة متطوّرة باهظة الثمن، كي نهدّد بها بعضنا بعضا، على غرار ما يفعله الأطفال في لعبهم، وما كان أحوجنا لصرفها في الاتحاد والتنمية ورفاهية شعبينا المظلومين. ولما توفي الجنرال ديغول، صار على نهجه بومبيدو وجيسكار ديستان وجاك شيراك. ولكن الأمور تغيرت بمجيء الرئيس ساركوزي الذي أصبح أداة طيعة في يد الأميركان، حيث كانت له، بإيعاز منهم، اليد الطولى في تخريب مجموعة من البلدان الأفريقية وإغراقها في بحر من الدماء والدخان والدموع. ورأت الشعوب الأفريقية في هذا التدخّل السافر مؤشّر شرٍّ أشعرها بالقلق والحذر، وأخذ نفورها من فرنسا الاستعمارية يتزايد يوما بعد آخر. وبمجيء الرئيس ماكرون، عرفت فرنسا أسوأ وضع لها على الإطلاق، بحيث إنه ساهم بعجرفته وعدم تجربته في دقّ آخر مسمارٍ في نعش استمرار هيمنة بلاده على هذه القارّة المغصوبة. ومن العوامل العجيبة التي ساهمت في ألا يستسيغه الأفارقة الذين يقدّرون الرجل المسن الوقور ذا الشيبة، حداثة سنه. حيث بدا أشبه بكتكوت مغرور ينفخ ريشه ويرفع رأسه متطاولا إلى السماء، وهو يعطي الدروس تلو الدروس لديكةٍ تراخى عُرفها من شدة الشيخوخة والهرم.
وهكذا أخذ عرش الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية يتهاوى بسرعة غريبة، ذلك ما أن وقع انقلاب عسكري في بوركينا فاسو حتى أتبعه آخر في النيجر، وها هو ذا تلميذٌ قديمٌ متخرّج من الأكاديمية العسكرية المغربية في مكناس يلتحق بالركب ويطيح الرئيس علي بانغو الذي لم يستمتع بعد بحلاوة انتصاره المغشوش في الانتخابات بحثا عن ولاية ثالثة مخالفة للدستور الذي طالما غيّره خدمة لمصالحه الشخصية... ومن نوادر سمعتها، وأنا في الأكاديمية نفسها قبل عقود، أن جاء ملازم مدرّس وهو يضحك، ممازحا صديقه في الدفعة قائلا له: نحن لا زلنا برتبة ملازم، ورفيقنا في الفوج أصبح رئيسا للجمهورية.. ولما استخبره صديقه، أعلمه بأن موسى طراوري الذي تخرّج من أكاديمية مكناس هو كذلك، قد أطاح بنظام الرئيس موديبو كيتا في مالي.
هل ستكون هذه الانقلابات المتتالية التي تقضّ مضاجع رؤساء أفارقة بشارة خير على الشعوب الأفريقية، أم أنها لن تعدو أن تنقلب، مع مرور الزمن، إلى أنظمة استبدادية هي الأخرى، على غرار سابقاتها التي تغنّت في بداية مشوارها بالديمقراطية، ثم زاغت سريعا عن طريقها القويم؟ وهل ستترك فرنسا الطريق معبّدا لروسيا بهذه السهولة، كي تحلّ محلّها بدون أن تحرّك ساكنا، وهي التي راكمت خبرة كبيرة في إجهاض انقلاباتٍ كثيرة؟ وهل ستكون روسيا أرحم من فرنسا في تعاملها مع هذه البلدان المتمرّدة التي طال عليها الأمد في انتظار غد مشرق، أم أنها ستكون بمثابة الشاة الهاربة من ذئب إلى ثعلب؟... وحده المستقبل وحده من سيكشف لنا عن الحقيقة الغائبة.