يحيى جابر إذ يجمع ما تفرّق
يبدو المسرحي والشاعر والصحافي اللبنانيّ، يحيى جابر، كأنّه الحامل الوحيد والأوحد همَّ الوطن اللبنانيّ الذي باتت تصحّ في توصيفه كل نعوت التفكّك والانحلال والانهيار. فثمّة "محاربٌ" صغيرٌ دؤوب، دونكيشوتيّ الهوى، ينتصب ويتقدّم وحيداً، رافعاً راية هذا البلد المنكوب في مواجهة رياح الانقسام والتشرذم التي حوّلت شعبه "شعوباً"، حسبما ذهب إليه الكاتب حازم صاغية في توصيفه أحوال أهل لبنان وطوائفه المتناحرة.
من خلال مجموعة من المسرحيات التي كتبها وأخرجها ويتجدّد عرضُها لأيامٍ معدودة من موسمٍ إلى آخر، ومن سنة إلى أخرى، يواصل يحيى جابر تفكيكَه العقد التي تهزّ حبلَ التعايش اللبناني وتقطّع أوصاله، فيُظهّر الخفيّ والمسكوت عنه ممّا لا تبوح به الطوائفُ اللبنانية لبعضها، وقد سبّب وقوعَ حرب أهلية ضارية، وقطّع جسور التواصل في ما بينها، ما زاد مشاعر التوجّس وأوقد الكراهية في القلوب. وبذلك، يحاول المسرحي اللبناني أن يعيد وصل ما انقطع من خلال ولوج حقيقة الآخر كما هي، وتقديمه بجهله ومخاوفه ومشكلاته وهشاشته وطرق عيشه. يقول: "الجهل سمة من سمات أعمالي عن مناطق وطوائف شعوب لبنان التي لا تعرف بعضها البعض، ولا تريد أن تعرف عن سابق تصوّر وتصميم. مسرحي خشبة تعارف وتعارك".
وبالفعل، فقد تناولت المسرحيات الثلاث التي عُرضت أو أعيد عرضُها في الشهر الأخير من العام المنصرم، على مسرح دوار الشمس في بيروت، أحوال شيعة البقاع كما هي الحال مع مسرحية "هيكالو" (بطولة عباس جعفر)، أو سُنّة بيروت في مسرحية "بيروت طريق الجديدة" (بطولة زياد عيتاني)، أو شيعة الجنوب مع "مجدّرة حمرا" (بطولة أنجو ريحان). والنصوص الثلاثة هذه ليست الوحيدة في هذا الإطار، فهناك أعمال أخرى متتابعة تحمل الهمّ ذاته، ويجري التطرّق من خلالها إلى ظروف جماعات لبنانية أخرى وأحوالها، مثلما هي الحال في مسرحيات "بيروت فوق الشجرة"، و"جوليا"، و"الأشرفية المدفون"، و"شو.. ها"، وأخيراً "مسرحية "تعارفوا" التي جمعت 18 شاباً هاوياً من مشارب ومناطق مختلفة يصعدون على الخشبة للمرة الأولى.
وتجدر الإشارة إلى أن معظم مسرحيات جابر تلك تستند إلى نصوص مونودراما يتداخل فيها الذاتيّ والشخصيّ بالعام، الاجتماعي بالسياسي، والكوميدي الساخر بالواقعي المؤلم والمؤثر، ويؤدّيها في كل مرة ممثّلٌ وحيدٌ من أبناء البيئة نفسها التي يتناولها في عرضه. هكذا، ومن خلال استحضاره بأدائه عدداً من الشخصيات، رجالاً ونساءً، يرسم الممثل بورتريه نزيهاً لأحوال تلك الجماعة، وهو ما يحمل المشاهِدَ اللبناني على التواصل بشكل غير مباشر مع أولئك الذين قد يعتبرهم "أعداءه"، وإلى الولوج بسلاسةٍ إلى قلب "المعسكر" المقابل، ليكتشف، في النتيجة، أن ما يجمع، أو لنقل أن ما يفرّق ليس بتلك الفرادة أو الخطورة. هكذا تصحّ مسرحياتُ جابر التي تمتاز بخلوّها من أية مراوغة أو غنائية كاذبة من النوع الذي درج عليه اللبنانيون في حديثهم عن تمسّكهم بالوحدة الوطنية وإرادتهم المستميتة للتعايش معاً وإرجاع احترابهم إلى مؤامرةٍ خارجية، إلى ما هنالك من خطب ذرّ رماد في العيون، تصحّ نقطةَ بدايةٍ ربما لالتقاء اللبنانيين في ما بينهم، أو لكسر تخوّفهم وحذرهم من فكرة الاجتماع مجدّداً. هنا بالذات تكمن، برأيي، أهميةُ أعمال يحيى جابر المشهدية، أي في ما يراكمه ويجمعه ويعيد شدّ مفاصله: لبنان المفتّت، المتشظّي، المتناحرة طوائفه وجماعاته، وليس في رؤيةٍ مسرحيةٍ فنيةٍ استثنائية.
مع يحيى جابر، يُعاد المسرح إلى إحدى وظائفه التراجيدية الأساسية كما رآها أرسطو، محاكاة الواقع لبلوغ "التطهير" (كاثارسيس). ومع مسرحياته، نحن في قلب مواجهة ضارية مع ذاتٍ عليلة يتم فضح عيوبها ومشكلاتها المتأتّية من عصبيتها وجهلها، في ما يشبه الجلوس في كرسي اعتراف، أو مصارحة الذات أمام مرآة.