20 عاماً على رحيل بورديو
منذ يومين، حلّت ذكرى وفاة عالم الاجتماع الفرنسي الشهير بيير بورديو (1 أغسطس/ آب 1930 – 23 يناير/ كانون الثاني 2002)، الذي أحدثت كتبه ومحاضراته ومقالاته حول الفن، والحقل الأدبي، والإعلام، والدولة، وعلاقات السيطرة الذكورية... إلخ، ثورة في علم الاجتماع على المستوى العالمي. بدليل استمرار راهنية الموضوعات التي عمل عليها وتحقّقها في الواقع، ومن أهمّها صوغه مفاهيم علمية أساسية مثل "الحقل" و"رأس المال الرمزي"، و"العنف الرمزي"... إلخ، وتناوله المدرسة كمؤسسة تساهم في إعادة إنتاج علاقات الهيمنة الاجتماعية، وعمله على البنى والآليات الخفية التي تتحكّم بالفاعلية الاجتماعية وبها تستمرّ الهيمنةُ الطبقية.
لن يكون موضوع هذه العجالة تناول أعمال بورديو التي تعدو 30 كتابا وعشرات المقالات والمقابلات، وإنما التذكير بمنجزه الكبير، كونه قد تناول مجموعة المؤسسات المسؤولة بشكل أو بآخر عن تنظيم العالم الاجتماعي، من خلال تحليلها ودراستها على مستويين: أول ويتعلّق بطبيعة تلك المؤسسات وبأسلوبها الخاص في البناء الرمزي للمجتمع، سواء تعلق الأمر بالثقافة المدرسية أو بإنتاج برامج تلفزيونية أو أعمال فنية كاللوحة والرواية... إلخ، ومستوى ثان يرتبط بما تقيمه المؤسساتُ إياها من علائق في ما بينها.
من بين أعمال بورديو الأولى، تجدر الإشارة إلى تحقيقين ميدانيين مهمّين، شكّلا قطيعة جوهرية مع علم الاجتماع التجريدي والتنظيري الذي كان سائدا في الستينيات، ألا وهما مقالة "العزوبية والشرط الفلاحي" (1962)، وفيها يتناول مجموعة من الفلاحين الفرنسيين العزّاب من المنطقة التي جاء هو منها في الجنوب الفرنسي (بيارن)، والثاني كتاب جماعيّ بعنوان "العمل والعمّال في الجزائر" (1963)، من تحقيق مجموعة خبراء وباحثين اقتصاديين وإحصائيين. وعلى الرغم من البون الشاسع الذي يفصل بين الموضوعين والمجموعتين، بين مستخدمين زراعيين غير متزوجين من جهة، وعمّال وعاطلين عن العمل جزائريين خلال الحرب ضد الاستعمار من جهة أخرى، فإن النقاط المشتركة بينهما سوف تتكشّف عديدة بفضل مقاربة بورديو وكيفية تحليله صراع القوى كما يُمارَس داخل المجتمعات. وهو ما سيصبح لاحقا أسلوبه أو منهجه في كشف حالات الحرمان أو النهب التي تصاحب حالة الفقر.
بمعنى آخر، لم يكن هدف بورديو دراسة مجموعاتٍ تنتمي إلى أوساط فقيرة معوزة، بقدر ما كان يرمي إلى التركيز على حالة النهب التي ترافق هذا النقص. فالمعضلة لا تكمن في افتقاد الثروة المادية أو الثقافية، وهذا واقع، بل في غياب المقدرة لدى هؤلاء على التحكّم بمعنى الحياة، ومعناه استحالة التأثير أو السيطرة على الصور السلبية أو المهينة الرائجة عنهم. هكذا تتقاسم المجموعتان، على تباينهما، خضوعَهما معا للمعايير التي تحدّدها المجموعاتُ المهيمِنة اجتماعيا، والتي تضعهما معا في أسفل دركات السلّم البشري. هذه "الهيمنة الرمزية" بالذات هي ما يعيّن الشرطَ الاجتماعي الذي يتبنّاه المهيمَنُ عليهم طوعا، ومن ميزات ذلك الشرط أنه يسم الجسد ويؤثر فيه بشكل مستديم وظاهري، كما أنه يشكّل جزءا أساسيا مما تسمّى "الهيمنة الاجتماعية". لذا يحمل الفلاحُ الفرنسي العازب والعاملُ الجزائري العاطل عن العمل، في جسديهما، ندباتِ وآثار شرطٍ اجتماعيّ يريان فيه مصيرا طبيعيا ومحتوما.
لقد كان بيير بورديو، الذي قرأ ماركس وأولاه اهتماما، ناقدًا له أيضا حين تناول الخاضعين للهيمنة الاجتماعية في شرطهم الاجتماعي ككل، وليس بصفتهم مستغَلّين اقتصاديا فقط. فقد أبى أن ينظر إليهم من المنظار الأخير حصريا، ورفض اعتبارهم قادرين كلية على الانتفاض على مستغلّيهم، مؤكّدا أن مفهوم الهيمنة الاجتماعية يُجبرنا على الاعتراف بالتغييرات العميقة التي يفرضها الصراعُ الطبقي على المهيمَن عليهم، ليس فكريا فحسب، بل حتى في لحوم أجسامهم.