الاستبداد والإرهاب معاً
تحاول أنظمة عربية إغلاق أبوابها، خوفاً من هبوب عواصف الثورات عليها، وهي، في هذا، تتحرك ضمن سياقات مختلفة شكلاً، لكنها تتشابه من حيث البنية، ومن حيث المنطق الداخلي. ويمكن، في هذا الصدد، تحديد الملامح العامة للسلوك السياسي لهذه الأنظمة، والمرور بعدها، إلى تفصيل الفوارق التي تصنع خصوصية كل نظام على حدة، بحيث يمكن فهم الوسائل التي تحاول هذه الأنظمة، من خلالها، منع كل محاولة للتغيير الداخلي، وبشكل طبيعي، لتفتح الطريق أمام احتمالات أخرى، لن تكون، في كل الأحوال، في صالح هذه الأنظمة التي تسعى إلى تصريف أزماتها بأشكال مختلفة، لمنع أي بادرةٍ لتمرّد شعبي، ومن ثم سقوط رأس الهرم، وانهيار باقي أحجار الدومينو من المستفيدين من وجود النظام. وهي، في هذا، تمارس نمطاً من المغالطات على أنحاء مختلفة وبأشكال متعددة، ويمكن ضبطها، أولاً، بالتركيز على فكرة الاستقرار في مقابل الاضطراب الذي يهزّ دول الثورات العربية، وهي، في هذا، تركّز على أن المصلحة الوطنية تقتضي الحفاظ على النظام، بهيكله الحالي، إما تخويفاً من تدخل خارجي محتمل، وكأن التدخل الأجنبي غير حاصل في ظل هذه الأنظمة الفاسدة، أو ترغيباً في إصلاحٍ قد يأتي، أو يجري تأجيله، كل مرة، بأعذار مختلفة.
وثانياً، السعي إلى توتير الأوضاع في الدول التي شهدت ثوراتٍ وبدأت خطوات نحو الديمقراطية، وإنْ بدرجات متفاوتة (التدخل السعودي والخليجي في مصر ودعمها المعلن الانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس المنتخب، والتدخل لمزيد من توتير الأوضاع في ليبيا وإثارة الفوضى فيها، ومحاولة عرقلة تطور مسار الانتقال الديمقراطي في تونس، بأشكال مختلفة).
وثالثاً، تسويق نفسها، لدى الغرب، بوصفها حامية للمصالح الدولية، في ظل تصاعد نفوذ القوى الإسلامية، في منطقة جنوب المتوسط، وتقديم نفسها باعتبارها شريكاً في محاربة الإرهاب الذي تغوَّل في ظلّ حالة الفوضى التي خلقتها الأنظمة المستبدّة ذاتها، عبر ضربها القوى الثورية السلمية (إعلان جماعة الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً، مثلاً)، ودعمها جماعات مسلحة بعينها، انحرفت بثوراتٍ عربية نحو حالة من الحرب الأهلية الدموية.
ومن جهة أخرى، تتجه دول الاستبداد العربي (بوصفها النقيض الموضوعي لكلّ نَفَسٍ تحرري وديمقراطي في المنطقة العربية) إلى اعتماد ممارساتٍ إجرائيةٍ لحماية أنفسها من الانهيار، وبأساليب مختلفة، الغاية منها حماية النظام المهترئ، وليس خدمة الشعب، وقد وجدت في رفع فزّاعة الإرهاب شعاراً مناسباً للتخويف من أي تغيير قادم، باعتباره يمسّ البنية الإقليمية للنظام الرسمي العربي، مستفيدةً في ذلك من دعم خارجي قوي، لارتباط الجهاز السياسي الحاكم، من أعلاه إلى أدناه، بالمنظومة الأميركية في المنطقة، مع ما يعنيه هذا من حرص على المصلحة الصهيونية، وهو ما تجلّى بوضوح في أثناء العدوان على غزة، حيث وقفت أنظمة الاستبداد العربي موقفاً مخزياً إلى الحد الذي بدا فيه تناغمها واضحاً مع مواقف الكيان الصهيوني، وفي بعض الأحيان، معلناً من جهة الرغبة في إدراج المقاومة الفلسطينية ضمن السياق العام لمحاربة الإرهاب في المنطقة.
وتثبت الوقائع على الأرض أن تصاعد العنف والفوضى، وتمدّد جماعات الإرهاب، كان النتيجة الموضوعية للسياسات الاستبدادية التي انتهجتها الأنظمة الاستبدادية، سواء من حيث رفضها المصالحة السياسية، أو التخلي عن الحكم، استجابة للمطالب الشعبية المتصاعدة، فلا أحد ينكر أن النظام السوري قد مهّد الطريق واسعاً، بمواقفه المتصلبة، وممارسته سياسة القصف بالبراميل، لظهور القوى المسلحة، وتطور الصراع من تظاهراتٍ شعبيةٍ تطالب بالحرية، إلى حربٍ أهليةٍ داميةٍ فتحت المجال واسعاً للصراعات الطائفية، وللتدخل الدولي، من أجل تحجيم هذا الطرف، أو ذاك، وهو الأمر نفسه الذي ينطبق على الوضع العراقي، حيث فشلت حكومات ما بعد الاحتلال الأميركي في إيجاد الصيغة المناسبة للتعايش، وحل المشكل السياسي على أساس حقوق المواطَنة والمشاركة في الحكم بين جميع الأطراف من دون إلغاء أو إقصاء. وهو أمر، على فداحته، نراه يتكرر في مصر، في ظل الحكم الانقلابي الذي يحاول اكتساب شرعية دولية، عبر تسويق فكرة إنقاذ المنطقة من خطر الإرهاب الإسلامي، بينما يمارس النظام أشد أساليب القمع والتقتيل ضد الإرادة الشعبية.
إن دول الاستبداد العربي، وإنْ بدا وكأنها تكسب صراعها ضد التيار المتصاعد للحرية في المنطقة، خصوصاً بعد حالة الجزر التي شهدها المدّ الثوري في سورية، وظهور جماعات موصوفة بالإرهاب، وتراجع العملية الديمقراطية إثر الانقلاب المصري، حيث أصبح إعلام الثورة المضادة وأصوات الردّة أعلى صوتاً وأكثر ضجيجاً، غير أن الشواهد التاريخية جميعاً تقول إن الثورات لا يجري حسم مصيرها في أشهر، وإنما تحتاج زمناً طويلاً، لتدرك غاياتها النهائية، وأنها لا تسير دوماً في خط مستقيم، وإنما تعرف تعرّجات وأزمات وصراعاتٍ، قبل أن تستوي على سوقها، وتتخذ صبغتها النهائية، وهي لا تتحقق بشكلها الأمثل، إلا في ظل محاولات الإجهاض والتآمر، وبسببها، لأن الثورات هي نتاج التحدي، وتتجاوز حدود المعقول، أحياناً. وكما تقول حنة آرنت: "إن في الثورات شيئاً إلهياً"، ويكفي أن نشير إلى أن هذه الثورات، مهما كان مآلها، "قد أحدثت، بفعل زخمها المتزايد في سنوات قليلة، عمل قرون طويلة"، كما قال يوماً روبسبير محقاً عن الثورة الفرنسية.
وأخيراً، تسير أنظمة الاستبداد خارج سياقات الزمن، وتعاكس منطق التاريخ وطبائع المدنيّة، من حيث أن المسار الحقيقي للشعوب إنما يتّجه صُعداً إلى الديمقراطية، ولن تطول أزمان الاستبداد، فالحرية أولاً وأخيراً.