الجدة التي قادت الثورة
لا أحد في الحي الفقير لا يعرفها، وكل من يراها من قاطنيه الفقراء يهش ويبش، ويُشرع باب بيته، لكي تدخل، وتستريح في صدر البيت، لأن لها فضلاً على أهله، لكنها تستمر في السير، ولهاث صدرها يرتفع بصورة لافتة، إلى درجة أنك تظن أنها تعاني من علة قلبية. ولسنا في حاجة إلى سؤالها عن وجهتها، فهي، قطعاً، تكون في طريقها إلى إحدى الجمعيات الخيرية التي تتوجه لها النساء أمثالها طلباً للمساعدة. وعلى الرغم من أنها ترتدي ملابس بالية، وتنتعل خفاً منزلياً، تقطعت أطرافه، وتسير به في الطرقات الموحلة، لكن شموخاً يغطي قسمات وجهها المغضن، وكبرياء غامضة تطل من عينيها الغائرتين.
هي الجدة التي أشارت إلى مسيرةٍ تمر من الشارع بطرف عينها، وقالت معلقة: كنت يوماً أقود المسيرات وأتصدر المظاهرات، حتى وأنا حامل، فقد كانت بطني تتقدمني، وكأني أعلن للاحتلال أننا لن نموت. ولكني اليوم لا أخرج إلى مسيرة لأية مناسبة، ليس لأني أصبحت متقدمة في السن (تجاوزت الستين بأعوام)، ولكن، لأني كنت أخرج بمظاهرات الثورة من أجل فلسطين، وكنا نحمل علماً واحداً هو علم فلسطين.
قالت الجدة بألم وحزن: كنا شعباً واحداً ويداً واحدة، ولا فرق بين ابن النجار وابن المختار، كلنا أبناء البلد، ونخاف على بعضنا، ولم يكن أحدنا يقف مكتوف الأيدي، حين يعتقل الجنود أحد الشباب، لأنه لا ينتمي للفصيل الذي يؤيده، لكننا كنا نهب جميعاً لنجدته، ونظل نرشق الجنود بالحجارة والزجاجات الفارغة، حتى يطلقوا سراحه.
وقالت الجدة ملمحة لبطالة أولادها وفقرهم: قبل الحصار، كان الخير وفيراً في غزة، ولم يكن هناك عاطل واحد. وقبل ذلك وفي زمن انتفاضة الحجارة، كنا نقذف الجنود الإسرائيليين بالحجارة، ونغلق الطرقات بإطارات السيارات المشتعلة، لنعيق مرور جيباتهم العسكرية. وعلى الرغم من ذلك، كانت مكبرات الصوت تجوب الشوارع، في أيام فرض نظام منع التجول، وتعلن هذه المكبرات عن السماح للعمال العرب بالخروج من بيوتهم، حاملين تصاريحهم، والتوجه إلى العمل داخل الخط الأخضر.
أضحكتنا الجدة، وهي تروي لنا كيف أنها التقت بضابط إسرائيلي في أحد الأزقة، وقد أمر جنوده بالجري خلف بعض الصبية، وإحضارهم أمامه، لكي يشبعهم ضرباً، لأن أحدهم قذفه بحجر ضخم، أصابه في ركبته، وقد أفلح الجنود في اصطياد أحد الصبية الذي كان بالمصادفة ابنها الصغير، وضحكت حتى اغرورقت عيناها الخضراوان بالدموع، وهي تقول: أيقنت أنه، وهو جنوده، لا يجيدون اللغة العربية، على عكس معظم الجنود الذين يتعلمون العربية منذ صغرهم. وهكذا كنت أمامه أجذب ابني من بين يديه، وهو يصر على حمله في الجيب العسكري، لكي يحتجزه في مقرهم، ويطالبنا بغرامةٍ مالية لا نملكها، وكنت أبكي وأرفع يدي إلى السماء تارة، وأطبطب على كتفه تارة أخرى، ثم أضرب على صدري بقوة، وأنا أدعو عليه جهاراً، وهو لا يفهم شيئاً من دعواتي الحارة. واعتقد، من حركاتي، أنني أرجوه، لكي يفلت الصبي الصغير، خصوصاً حين قبضت بأصابعي على أذن ابني واعتصرتها، ولسان حالي يردد: الله لا يجعلك تشوف ولادك حواليك، الله يحرمك من نور عينيك.
أرضى توسلي الكاذب غروره، فأشار بيده بغطرسة، بمعنى أن خذي الولد، فتلقفته بلهفةٍ، وغادر هو وجنوده المكان، واستقل جيبه المصفح، واتخذ مكانه بجوار السائق، وأحمد الله أنه لم يلتفت خلفه، لأنه لو فعل ذلك لرآني أقذفه بالحجارة مع ابني...
تابعت الجدة بلا اكتراث فلول المسيرة، التي خرجت لإحياء ذكرى انتفاضة الحجارة الثامنة والعشرين، وقد حمل الشبان بين أيديهم أعلاماً بشعارات مختلفة، وسالت دمعة أخفتها سريعاً، فلا أحد يذكرها سوى الفقراء أمثالها، فبعض من أنقذتهم من بين براثن الجنود، ولم يكونوا وقتها سوى عابري سبيل، ولم يكونوا من المناضلين، لكن الجنود كانوا يصطادون الجميع من الطرقات، بعضهم احتل مراكز ومناصب رفيعة، لكنهم نسوا بطولتها، ولا زالوا يتغنون ببطولاتهم.