08 نوفمبر 2024
مأزق المشروع الصهيوني
قد لا تعنينا السياقات التاريخية التي أنتجت المشروع الصهيوني، بقدر ما تعنينا مآلاته، في ظل المتغيرات التي تعرفها المنطقة العربية، واتساع رقعة النفوذ الإيراني، وتحولات السياسة الدولية التي لا تستقر على حال. وعلى الرغم من مرور عقود على تحقيق هذا المشروع أهمَّ حلقة فيه، وهي الاستيلاء على فلسطين التاريخية، إلا أنه يواجه مأزقاً حقيقياً يتخذ أبعاداً متشعبة، قد لا يسع المجال للخوض فيها كلها.
استطاعت الحركة الصهيونية أن تحقق حلم روادها الأوائل، بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، وأن تستثمر لحظة تاريخية ضاجة بالمفارقات الإقليمية والدولية (هزيمة النازية وتراجع بريطانيا وصعود الولايات المتحدة وضعف الطرف العربي)، وأن تحول ذلك كله إلى موارد استراتيجية حاسمة، استندت إليها إسرائيل لاحقاً، في بناء أسطورة تفوقها على دول المنطقة. كما نجحت هذه الحركة في صناعة مراكز نفوذ سياسي واقتصادي مؤثرة داخل مختلف دوائر صنع القرار في الغرب.
طبعا، لم تكن النخب السياسية والعسكرية والثقافية في العالم العربي في مستوى هذه اللحظة. فخسر العرب حربهم الأولى مع إسرائيل عام 1948. ومع بداية الخمسينيات، عرفت المنطقة صعود العسكرتارية العربية التي بنت شرعيتها السياسية على خيارات ثورية، كان أهمها الثأر لهزيمة 48 وتحرير الأرض، لكن جيوشها تعرضت لنكسة مدوية عام 1967 أجهزت على ما تبقى من فلسطين، وعمّقت جراح الشعب الفلسطيني. ولم تكن الدبلوماسية العربية في مستوى لعبة المصالح المعقدة، فلم تنجح، طوال العقود الماضية، في فتح دروب في متاهات السياسة الدولية، يمكن أن تعيد بعض ما ضاع. ولم تنخرط الجامعات ومراكز البحث العلمي في العالم العربي في مشاريع لإنتاج معرفة علمية كافية بالمجتمع الإسرائيلي. وبالطبع، ألقى كل هذا بظله على الطرف الفلسطيني المعني مباشرة بالصراع. فأضحى أسيراً لتحولات النظام الإقليمي العربي، فبدأ مسلسل التنازلات مع تلويح ياسر عرفات بغصن الزيتون في مقر الأمم المتحدة عام 1974، الأمر الذي عززه خروجُ المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 وانسداد آفاق الكفاح المسلح أمامها، فأفضى ذلك، في النهاية، إلى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، توجت بالتوقيع على اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993. وقد كان لهذا الاتفاق أثر عميق، فيما بعد، على آفاق المشروع الوطني الفلسطيني، وعلى تزايد حدة الخلاف بين المكونين، الوطني والإسلامي، داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.
لكن، على الرغم من ذلك كله، هناك أشياء كثيرة يجب الوقوف عندها، لكننا سنقتصر على بعضها. فيما يتعلق باللاجئين، لا تزال هذه القضية المفصلية تشكل مصدر قلق للنخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية لعدة أسباب، أبرزها أنها مسنودة بقرار صادر عن الأمم المتحدة (القرار 194). ثم، وهذا هو المهم، أن الأمر لم يعد مجرد آلاف هُجروا من ديارهم عام 1948، بل صاروا الآن ملايين يشكلون عبئاً قانونياً وأخلاقياً على الرأي العام الدولي، على الرغم من جهود الدولة العبرية للالتفاف على هذه القضية، بإصرارها على عدم إدراجها في أي تسوية مع الفلسطينيين، بما ذلك حل الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح.
علاوة على ذلك، فقد عرفت البنية الثقافية والاجتماعية لهؤلاء اللاجئين تحولات نوعية لا يمكن الاستهانة بها، من قبيل ظهور أجيال جديدة بين فلسطينيي الشتات ما فتئت تثبت حضورها المهني والاجتماعي والثقافي في بلدان إقامتها، من دون التخلي عن تشبثها بهويتها الوطنية وحقها في العودة. ولذلك يدرك قادة إسرائيل أن أي تسوية تستوعب حق العودة ستؤثر على معادلة الصراع، بالنظر إلى تداعياتها الديمغرافية والثقافية العميقة.
وفي سياق ذي صلة، قامت إسرائيل، منذ تأسيسها، على تلازم استراتيجي بين مسألتين اثنتين؛ أولاً الدور الكبير والمؤثر الذي يقوم به اللوبي الصهيوني في الغرب على صعيد دعم السياسات الإسرائيلية، بواسطة شبكة نفوذ متشعبة في مجالات حساسة، كالإعلام والاقتصاد. وثانياً، العمل على تدفق منتظم لهجرة اليهود إلى فلسطين، مع ما يترتب على ذلك من إكراهات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لا ينجح دائما قادة إسرائيل في تدبيرها. يعني ذلك أن الدولة العبرية قد تواجه، في المستقبل، تحديا استراتيجيا يتمثل في صعوبة التوفيق، من جهة، بين ضمان استمرارية هجرة يهود العالم إليها، والحفاظ على شبكة الدعم الصهيوني المتغلغلة في أكثر من بلد غربي، من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، فشل المشروع الصهيوني في تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" التي تمتد حدودها من النيل إلى الفرات، على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح ودعم معظم الدول الغربية. وهو ما يطرح، بحدة، مستقبل هذا المشروع، في ظل فشل إسرائيل في كسب معركة التطبيع الثقافي مع شعوب المنطقة. كما أن تقلص احتمالات التسوية، حتى لا نقول السلام، وتراجع حل الدولتين، بفعل التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ونزوع قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي نحو مواقف يمينية متطرفة، ذلك كله يعطي شرعية أكثر لحركات المقاومة في المنطقة، ويلقي أعباء جديدة على المجموعة الدولية.
فضلا عن ذلك، تفيد دراسات عديدة بأن هناك قلقا متزايدا لدى إسرائيليين كثيرين بخصوص ما يحدث في العالم العربي. قامت المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، منذ نهاية الحرب الثانية، على أساس دعم الغرب النخب العربية الحاكمة، مقابل تبعيتها السياسية والاقتصادية، وضمان التحكم في مصادر الطاقة والتسليم بحق إسرائيل في الوجود. وعلى هذا الأساس، يمكن إدراك أبعاد الخوف الذي اجتاح أوساطاً إسرائيلية عديدة، بعد اندلاع الثورات العربية، مع بداية عام 2011. صحيح أن هذه الثورات عرفت انتكاسات موجعة، خلال السنتين المنصرمتين، غير أن ما يدركه جزء من الرأي العام الإسرائيلي، هو أن المجتمعات العربية تمر بتحولات سوسيولوجية وثقافية وسياسية عميقة، لا يمكن التنبؤ بمآلاتـها.
يواجه المشروع الصهيوني مأزقا حقيقيا فيما يتعلق بمستقبله في ظل متغيرات إقليمية ودولية، يصعب التوقع بشأن آفاقها وممكنات تكيف هذا المشروع معها، ذلك أن المسارات المعقدة للتاريخ، بقدر ما تطرح على الفاعلين إكراهات مختلفة، فإنها تفتح أمامهم دروبا للعمل، أو على الأقل لتدبير هذه الإكراهات.
طبعا، لم تكن النخب السياسية والعسكرية والثقافية في العالم العربي في مستوى هذه اللحظة. فخسر العرب حربهم الأولى مع إسرائيل عام 1948. ومع بداية الخمسينيات، عرفت المنطقة صعود العسكرتارية العربية التي بنت شرعيتها السياسية على خيارات ثورية، كان أهمها الثأر لهزيمة 48 وتحرير الأرض، لكن جيوشها تعرضت لنكسة مدوية عام 1967 أجهزت على ما تبقى من فلسطين، وعمّقت جراح الشعب الفلسطيني. ولم تكن الدبلوماسية العربية في مستوى لعبة المصالح المعقدة، فلم تنجح، طوال العقود الماضية، في فتح دروب في متاهات السياسة الدولية، يمكن أن تعيد بعض ما ضاع. ولم تنخرط الجامعات ومراكز البحث العلمي في العالم العربي في مشاريع لإنتاج معرفة علمية كافية بالمجتمع الإسرائيلي. وبالطبع، ألقى كل هذا بظله على الطرف الفلسطيني المعني مباشرة بالصراع. فأضحى أسيراً لتحولات النظام الإقليمي العربي، فبدأ مسلسل التنازلات مع تلويح ياسر عرفات بغصن الزيتون في مقر الأمم المتحدة عام 1974، الأمر الذي عززه خروجُ المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 وانسداد آفاق الكفاح المسلح أمامها، فأفضى ذلك، في النهاية، إلى الدخول في مفاوضات مع إسرائيل، توجت بالتوقيع على اتفاق أوسلو في سبتمبر/أيلول 1993. وقد كان لهذا الاتفاق أثر عميق، فيما بعد، على آفاق المشروع الوطني الفلسطيني، وعلى تزايد حدة الخلاف بين المكونين، الوطني والإسلامي، داخل الحركة الوطنية الفلسطينية.
لكن، على الرغم من ذلك كله، هناك أشياء كثيرة يجب الوقوف عندها، لكننا سنقتصر على بعضها. فيما يتعلق باللاجئين، لا تزال هذه القضية المفصلية تشكل مصدر قلق للنخب السياسية والعسكرية الإسرائيلية لعدة أسباب، أبرزها أنها مسنودة بقرار صادر عن الأمم المتحدة (القرار 194). ثم، وهذا هو المهم، أن الأمر لم يعد مجرد آلاف هُجروا من ديارهم عام 1948، بل صاروا الآن ملايين يشكلون عبئاً قانونياً وأخلاقياً على الرأي العام الدولي، على الرغم من جهود الدولة العبرية للالتفاف على هذه القضية، بإصرارها على عدم إدراجها في أي تسوية مع الفلسطينيين، بما ذلك حل الدولة الفلسطينية المنزوعة السلاح.
وفي سياق ذي صلة، قامت إسرائيل، منذ تأسيسها، على تلازم استراتيجي بين مسألتين اثنتين؛ أولاً الدور الكبير والمؤثر الذي يقوم به اللوبي الصهيوني في الغرب على صعيد دعم السياسات الإسرائيلية، بواسطة شبكة نفوذ متشعبة في مجالات حساسة، كالإعلام والاقتصاد. وثانياً، العمل على تدفق منتظم لهجرة اليهود إلى فلسطين، مع ما يترتب على ذلك من إكراهات اقتصادية واجتماعية وثقافية، لا ينجح دائما قادة إسرائيل في تدبيرها. يعني ذلك أن الدولة العبرية قد تواجه، في المستقبل، تحديا استراتيجيا يتمثل في صعوبة التوفيق، من جهة، بين ضمان استمرارية هجرة يهود العالم إليها، والحفاظ على شبكة الدعم الصهيوني المتغلغلة في أكثر من بلد غربي، من جهة أخرى.
من ناحية أخرى، فشل المشروع الصهيوني في تحقيق حلم "إسرائيل الكبرى" التي تمتد حدودها من النيل إلى الفرات، على الرغم من التفوق العسكري الإسرائيلي الواضح ودعم معظم الدول الغربية. وهو ما يطرح، بحدة، مستقبل هذا المشروع، في ظل فشل إسرائيل في كسب معركة التطبيع الثقافي مع شعوب المنطقة. كما أن تقلص احتمالات التسوية، حتى لا نقول السلام، وتراجع حل الدولتين، بفعل التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، ونزوع قطاعات واسعة من المجتمع الإسرائيلي نحو مواقف يمينية متطرفة، ذلك كله يعطي شرعية أكثر لحركات المقاومة في المنطقة، ويلقي أعباء جديدة على المجموعة الدولية.
فضلا عن ذلك، تفيد دراسات عديدة بأن هناك قلقا متزايدا لدى إسرائيليين كثيرين بخصوص ما يحدث في العالم العربي. قامت المعادلة الاستراتيجية في المنطقة، منذ نهاية الحرب الثانية، على أساس دعم الغرب النخب العربية الحاكمة، مقابل تبعيتها السياسية والاقتصادية، وضمان التحكم في مصادر الطاقة والتسليم بحق إسرائيل في الوجود. وعلى هذا الأساس، يمكن إدراك أبعاد الخوف الذي اجتاح أوساطاً إسرائيلية عديدة، بعد اندلاع الثورات العربية، مع بداية عام 2011. صحيح أن هذه الثورات عرفت انتكاسات موجعة، خلال السنتين المنصرمتين، غير أن ما يدركه جزء من الرأي العام الإسرائيلي، هو أن المجتمعات العربية تمر بتحولات سوسيولوجية وثقافية وسياسية عميقة، لا يمكن التنبؤ بمآلاتـها.
يواجه المشروع الصهيوني مأزقا حقيقيا فيما يتعلق بمستقبله في ظل متغيرات إقليمية ودولية، يصعب التوقع بشأن آفاقها وممكنات تكيف هذا المشروع معها، ذلك أن المسارات المعقدة للتاريخ، بقدر ما تطرح على الفاعلين إكراهات مختلفة، فإنها تفتح أمامهم دروبا للعمل، أو على الأقل لتدبير هذه الإكراهات.