31 أكتوبر 2024
اليسار الإصلاحي في المغرب
يستعد المشهد الحزبي في المغرب لاستقبال وافد جديد. يتعلق الأمر بحزب البديل الديمقراطي الذي أسسه تيار الانفتاح والديمقراطية، المنشق عن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومنسحبون من أحزاب يسارية أخرى. ومرة أخرى، يخفق الاتحاد، أكبر أحزاب اليسار الإصلاحي في المغرب، في الحفاظ على وحدته الداخلية، بعد فشل محاولات الصلح بين التيار المذكور وقيادة الحزب.
وطوال تاريخها الذي يتجاوز نصف قرن، عرفت الحركة الاتحادية التي خرجت من رحم حزب الاستقلال سنة 1959، عدة انشقاقات، غدت، بمرور الوقت، محطات مفصلية في التاريخ الحزبي والسياسي للمغرب المعاصر، من أبرزها انشقاق جناح اللجنة الإدارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية في 30 يوليو/ تموز 1972، وتأسيسه الاتحاد الاشتراكي، معلنا بذلك القطعَ مع الخيار الثوري، وتبني استراتيجية النضال الديمقراطي السلمي. بعدها بحوالي عشر سنوات، يغادر سفينة الاتحاد الجناح الراديكالي ليؤسس حزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، غير أن الانشقاق الذي حصل سنة 2001، حين قرر التيار النقابي مغادرة الحزب، وتأسيس "المؤتمر الوطني الاتحادي"، يظل الأبرزَ، بالنظر لتبعاته العميقة، ليس فقط بالنسبة للاتحاد الذي تلقى ضربة سياسية وتنظيمية موجعة، بل لمجموع مكونات المعارضة التاريخية المنحدرة من الحركة الوطنية، والتي فقدت، في العقدين المنصرمين، كثيراً من قوتها وحيويتها، فتحولت إلى تنظيمات مغلقة، تنتظر حصتها من الريع السياسي والانتخابي، لتوزعها، هي الأخرى، بين نخبها، وفق حساباتها الخاصة.
ولعل من المفارقات التي تنطوي عليها مشكلة الديمقراطية داخل أحزاب اليسار الإصلاحي، أن كل هذه الأحزاب جعلت من إقرار نظام ديمقراطي، قائم على فصل السلطات، أحد أهم أولوياتها، وهو ما نعاينه، بكل وضوح، في بياناتها ومقرراتها المختلفة، بيد أن واقع الحال ينبئ عن تناقض رهيب بين خطابها وسلوكها. كان الخطأ الكبير الذي ارتكبه اليسار الإصلاحي في المغرب أنه لم يربط، ضمن رؤية سياسية واجتماعية متسقة، بين استراتيجية النضال الديمقراطي التي تبناها منذ منتصف السبعينيات والعمل من داخل المجتمع بكل ما يفرزه من إكراهات مختلفة. وكان لهذه الهوة أثر بالغ في أن أحزاب هذا اليسار ظلت عاجزة عن استيعاب هذه الاستراتيجية ضمن هياكلها وبنياتها. صحيح أنها تنص، في وثائقها المرجعية والتأسيسية، على تبني الخيار الديمقراطي واحترام الحقوق والحريات، وغيرها من موارد الحداثة السياسية الأخرى، غير أن مؤتمراتها العامة تظل أكبر شاهد على زيف خطابها وازدواجيته، ففي الغالب، يغيب النقاش الحر والمنفتح على الأجيال والحساسيات والتيارات التي تنتمي للحزب الواحد، و يتم اللجوء إلى تزوير انتخابات الهيئات التنفيذية والتقريرية، بغاية تحجيم حضور وتأثير تيار بعينه داخل هذا الحزب أو ذاك.
مثل معظم التنظيمات السياسية التي تفتقد الشرعية الديمقراطية، تستعيض هذه الأحزاب عن هذه الشرعية بأخرى بديلة، تشكل الزعامة التاريخية والموت أهم مواردها الأساسية. فمع رحيل الزعماء المؤسسين، تلجأ الأحزاب، في المجتمعات التقليدية، إلى الموت باعتباره رصيدا رمزياً، يمكن أن يشرعن سلوك قيادتها واختياراتها السياسية. هكذا، تحول رحيل قادة، مثل المهدي بن بركة، وعمر بن جلون، وعبد الرحيم بوعبيد، وأحمد الزايدي، وغيرهم، إلى مرجعية رمزية وسياسية، تلتحم فيها معاني الزعامة والنزاهة والإخلاص الحزبي والاستشهاد، ضمن سعي حثيث خلف شرعية مفترضة. ولعل اللحظة التاريخية التي أنتجها الحراك العربي مع متمم سنة 2010، كشفت بالملموس عن مأزق كبير تواجهه أحزاب اليسار الإصلاحي في المغرب، حيث أخفقت في مواجهة اللحظة، والتفاعل مع منعرجاتها بطريقة منتجة وفاعلة، نظرا لافتقادها حس المبادرة والتواصل الذي تقتضيه قواعد العمل السياسي الحديث. وعوض أن تنخرط في الأسئلة الملحة التي أفرزها الحراك، وأبرزها سؤال الديمقراطية، بما يقتضيه من تشبيب نخبها وتحديث هياكلها، قررت مواصلة تخبطها التنظيمي والسياسي، مفضلة المصالح والامتيازات الذاتية لقياداتها التقليدية.
سيظل بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، والذي اعتبر فيه تعيين إدريس جطو وزيرا أول خروجا عن المنهجية الديمقراطية، أحد أشهر البيانات في تاريخ الحزب، ليس فقط بسبب أنه جاء رد فعل على الردة السياسية التي مثلها تعيين جطو خلفا لعبد الرحمن اليوسفي الذي قاد حكومة التناوب بين سنتي 1998 و2002. ولكن، أيضا بسبب تعبيره الدال والعميق عن الانفصام المريع الذي تعيشه النخب المغربية بين خطابها السياسي وسلوكها الفعلي.
ولعل من المفارقات التي تنطوي عليها مشكلة الديمقراطية داخل أحزاب اليسار الإصلاحي، أن كل هذه الأحزاب جعلت من إقرار نظام ديمقراطي، قائم على فصل السلطات، أحد أهم أولوياتها، وهو ما نعاينه، بكل وضوح، في بياناتها ومقرراتها المختلفة، بيد أن واقع الحال ينبئ عن تناقض رهيب بين خطابها وسلوكها. كان الخطأ الكبير الذي ارتكبه اليسار الإصلاحي في المغرب أنه لم يربط، ضمن رؤية سياسية واجتماعية متسقة، بين استراتيجية النضال الديمقراطي التي تبناها منذ منتصف السبعينيات والعمل من داخل المجتمع بكل ما يفرزه من إكراهات مختلفة. وكان لهذه الهوة أثر بالغ في أن أحزاب هذا اليسار ظلت عاجزة عن استيعاب هذه الاستراتيجية ضمن هياكلها وبنياتها. صحيح أنها تنص، في وثائقها المرجعية والتأسيسية، على تبني الخيار الديمقراطي واحترام الحقوق والحريات، وغيرها من موارد الحداثة السياسية الأخرى، غير أن مؤتمراتها العامة تظل أكبر شاهد على زيف خطابها وازدواجيته، ففي الغالب، يغيب النقاش الحر والمنفتح على الأجيال والحساسيات والتيارات التي تنتمي للحزب الواحد، و يتم اللجوء إلى تزوير انتخابات الهيئات التنفيذية والتقريرية، بغاية تحجيم حضور وتأثير تيار بعينه داخل هذا الحزب أو ذاك.
مثل معظم التنظيمات السياسية التي تفتقد الشرعية الديمقراطية، تستعيض هذه الأحزاب عن هذه الشرعية بأخرى بديلة، تشكل الزعامة التاريخية والموت أهم مواردها الأساسية. فمع رحيل الزعماء المؤسسين، تلجأ الأحزاب، في المجتمعات التقليدية، إلى الموت باعتباره رصيدا رمزياً، يمكن أن يشرعن سلوك قيادتها واختياراتها السياسية. هكذا، تحول رحيل قادة، مثل المهدي بن بركة، وعمر بن جلون، وعبد الرحيم بوعبيد، وأحمد الزايدي، وغيرهم، إلى مرجعية رمزية وسياسية، تلتحم فيها معاني الزعامة والنزاهة والإخلاص الحزبي والاستشهاد، ضمن سعي حثيث خلف شرعية مفترضة. ولعل اللحظة التاريخية التي أنتجها الحراك العربي مع متمم سنة 2010، كشفت بالملموس عن مأزق كبير تواجهه أحزاب اليسار الإصلاحي في المغرب، حيث أخفقت في مواجهة اللحظة، والتفاعل مع منعرجاتها بطريقة منتجة وفاعلة، نظرا لافتقادها حس المبادرة والتواصل الذي تقتضيه قواعد العمل السياسي الحديث. وعوض أن تنخرط في الأسئلة الملحة التي أفرزها الحراك، وأبرزها سؤال الديمقراطية، بما يقتضيه من تشبيب نخبها وتحديث هياكلها، قررت مواصلة تخبطها التنظيمي والسياسي، مفضلة المصالح والامتيازات الذاتية لقياداتها التقليدية.
سيظل بيان المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي في نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، والذي اعتبر فيه تعيين إدريس جطو وزيرا أول خروجا عن المنهجية الديمقراطية، أحد أشهر البيانات في تاريخ الحزب، ليس فقط بسبب أنه جاء رد فعل على الردة السياسية التي مثلها تعيين جطو خلفا لعبد الرحمن اليوسفي الذي قاد حكومة التناوب بين سنتي 1998 و2002. ولكن، أيضا بسبب تعبيره الدال والعميق عن الانفصام المريع الذي تعيشه النخب المغربية بين خطابها السياسي وسلوكها الفعلي.