04 نوفمبر 2024
استشهاد الزواري... دعاة التطبيع وحرج الحكومة التونسية
كان الشهيد بيننا، غير أننا لم ننتبه إليه، حتى نالته يد الغدر، من دون أن يعلم أحدٌ أنه نذر حياته للقضية الفلسطينية. كان يعمل بصمت، بعيداً عن الأضواء، غير أنه لم يكن متخفياً أو متوارياً، وتلك مفارقة غريبة في حياة الشهيد. لا أحد يعرف عن تفاصيل حياته شيئاً فقد خبأها بعيداً ربما حتى عن زوجته التي لم تكن تعرف عن علاقاته الحركية الكثير. ومع ذلك، توحي زغرودتها العالية، وهي تشيّع جثمانه وتودّعه، للمرة الأخيرة، أنها تزفّ شهيداً وأنها تفخر به، وقد كانت تلك الزغرودة مؤشراً أول على أن الضحية مات مغتالاً. لم يصدّق عديدون تلك التأويلات، واعتبر بعضهم أن للمسألة علاقة بالحرب الأهلية السورية، خصوصاً أن زوجة الشهيد سورية، فضلاً على زياراته سورية وعدة بلدان عربية.
كان الرجل قد استطاع أن يمزج بين بعدين، يندر أن يجتمعا لدى شخص واحد، وتلك بعض من هفواتٍ أمنية، يسّرت تسلل براثن المخابرات القاتلة إلى روحه الطاهرة: كان الشهيد منخرطاً حتى النخاع في العمل الجمعياتي، يتحرّك من جمعيةٍ علميةٍ بحثيةٍ إلى أخرى، يطوف البلاد من جنوبها إلى شمالها، يحاضر حول هندسة الطيران وعلومه، ويشرف على مخبر هندسة الطيران في مدرسة عليا للهندسة في مدينته الأصلية صفاقس، فضلاً عن إعداده أطروحة دكتوراه حول أنظمة التحكّم في الغواصات، من دون أن ينتبه أحد من أساتذته أو طلابه إلى ميولٍ سياسية أو انخراط في أي عمل سري.
كان الرجل منفتحاً، وألبوم الصور الذي نشره طلبته وأصدقاؤه، بعد استشهاده، يبدي أنه كان متواضعاً محتضناً جل طلبته، بمن فيهم "طالباته" غير المتحجبات، لا يفرّق بين أحدٍ منهم. كان رجلاً مخبراً حقيقياً، يحرص على أن يلامس بكلتا يديه الأشياء والمواد ونماذج وقوالب الطائرات التي كان يحاكي صنعها مع طلبته.
لم ينخرط الشعب التونسي في قضية الشهيد إلا بعد يومين من اغتياله، فالأخبار كانت شحيحةً، كما أشرنا سابقاً. ولا أحد يعرف عن الشهيد، سواء شعفه بهندسة الطيران ومخبره. تؤكد
الأخبار الأولى التي تسرّبت أنه كان طالباً إسلاميا (حركة الاتجاه الإسلامي)، لكنه فر مبكراً، في بداية تسعينيات القرن الفارط، من البلاد، خشية بطش نظام بن علي آنذاك، وطاف عدة بلدان عربية ومشرقية. وعاد بعد الثورة من دون أن ينخرط في أي عملٍ سياسي، متفرغاً لما ذكرناه من أنشطة علمية. حتى المجتمع المدني على غرار عمادتي المحامين والمهندسين والجمعيات الحقوقية أنكرت، في بداية الأمر، أن تكون قد سمعت به أصلاً، ما شجّع عدداً محدوداً من أعداء الحركة الإسلامية التي يبدو أن الراحل انفصل عنها مبكراً أن تبدي إما تحرشاً به على اعتبار أن الجريمة هي جريمة حق عام، أو تصفيات داخل جماعاتٍ إسلاميةٍ متناحرةٍ أو مستهزئة به، على اعتباره "مجرماً"، دفع ثمن حيله العلمية التي يبدو فيها، في أحسن الأحوال، مجرد هاوٍ في النوادي العلمية الشبابية. هكذا كان خطاب دعاة الثورة المضادة الذين احترفوا التحرّش بالقضية الفلسطينية، مند سقوط النظام وصعود حركة النهضة بشكل خاص.
غير أن بيان كتائب عز الدين القسام قلب رأساً على عقب المواقف، حين نعى الشهيد، واعتبره أحد أركان برنامجها العسكري، فمنذ ذلك البيان أصبح جزء كبير من وسائل الإعلام، حتى العمومية، ينعته بالشهيد، بعد أن كان مجرد "قتيل"، أو ضحية في أحسن الأحوال.
الأمر الذي أثار سخط الرأي العام الذي مال تدريجيا إلى فائدة الشهيد، مفتخراً به، معتبراً إياه بطلاً وطنياً، فهو موقف الحكومة التونسية التي تردّدت، منذ البداية، ولم تستطع تدارك الأمر، حتى بعد أن عقد وزير الداخلية مؤتمره الصحافي الذي سرد فيه ما غدا معروفاً أن الرجل اغتالته أجهزة مخابرات، بالتواطؤ مع أطراف تونسية وأجنبية، من دون أن يجرؤ على تسمية المخابرات الصهيونية، بدعوى التحفظات الرسمية في مثل هذه المواقف، الأمر الذي أثار غضب الرأي العام، غير أن الوزير الوحيد الذي تجرأ على تحميل الكيان الصهيوني جريمة الاغتيال هو الوزير مبروك كورشيد، ذي الخلفية القومية، حتى اعتبر بعضهم، أنه خرج عن التحفظ الحكومي.
عمدت الحكومة إلى إقالة محافظ منطقة صفاقس والمسؤولين الأمنيين الجهويين، خطوةً
لامتصاص الغضب، ومحاولة تهدئة الرأي العام الذي ما زال لم يستوعب بعد أسباب ذلك الإخفاق الرهيب، والعملية قد استوجبت أكثر من أربعة أشهر من الإعدادات الميدانية في مدينة صفاقس بالذات. كما أنها كانت محل نقد شديد من أعضاء مجلس نواب الشعب، حين عقد يوم الجمعة جلسة مساءلةٍ، تحولت إلى محاكمة لوزيري الداخلية والخارجية.
لم تكن جنازة الرجل تليق به. لذلك نظم المجتمع المدني والأحزاب مسيرة شعبية إكراما له، مطالبين بإقامة جنازة رمزية رسمية له، كما طالبت المسيرة الهادرة بتجريم التطبيع مع إسرائيل، وقد لبت السطات التونسية قبل ذلك بيومين مطلباً، رفعته أصوات عديدة، حين منحت زوجته وثيقة الإقامة، في خطوة أولى لتكريم عائلته وتهدئة الرأي العام الذي اعتبر أن الموقف الحكومي لم يرتق إلى مستوى الجريمة النكراء التي ارتكبها العدو الصهيوني.
يجدّد الشهيد محمد الزواري، بميتته المشرّفة، تقليداً عريقاً، يؤكد ارتباط الشعب التونسي بالقضية الفلسطينية. لقد هب مئات التونسيين إلى الدفاع عن فلسطين، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كما احتضنوا منظمة التحرير وقواها العسكرية، حين ضاقت عليهم الأرض في صيف غائم سنة 1982.الثورة التونسية ثورة كرامة وحرية وعدل، لذلك لن تكون إلا توأماً للثورة الفلسطينية، ولو كره الكارهون.
الأصوات التي تحرّشت بحركة حماس منذ سنوات، واتهمتها باطلاً بأنها وراء الإرهاب الذي عرفته تونس، تعد شريكةً في الجريمة، بشكل أو بآخر، لأنها تتحمّل المسؤولية الأخلاقية للتحريض على الفلسطينيين، وكل المتعاطفين معهم.
كان الرجل قد استطاع أن يمزج بين بعدين، يندر أن يجتمعا لدى شخص واحد، وتلك بعض من هفواتٍ أمنية، يسّرت تسلل براثن المخابرات القاتلة إلى روحه الطاهرة: كان الشهيد منخرطاً حتى النخاع في العمل الجمعياتي، يتحرّك من جمعيةٍ علميةٍ بحثيةٍ إلى أخرى، يطوف البلاد من جنوبها إلى شمالها، يحاضر حول هندسة الطيران وعلومه، ويشرف على مخبر هندسة الطيران في مدرسة عليا للهندسة في مدينته الأصلية صفاقس، فضلاً عن إعداده أطروحة دكتوراه حول أنظمة التحكّم في الغواصات، من دون أن ينتبه أحد من أساتذته أو طلابه إلى ميولٍ سياسية أو انخراط في أي عمل سري.
كان الرجل منفتحاً، وألبوم الصور الذي نشره طلبته وأصدقاؤه، بعد استشهاده، يبدي أنه كان متواضعاً محتضناً جل طلبته، بمن فيهم "طالباته" غير المتحجبات، لا يفرّق بين أحدٍ منهم. كان رجلاً مخبراً حقيقياً، يحرص على أن يلامس بكلتا يديه الأشياء والمواد ونماذج وقوالب الطائرات التي كان يحاكي صنعها مع طلبته.
لم ينخرط الشعب التونسي في قضية الشهيد إلا بعد يومين من اغتياله، فالأخبار كانت شحيحةً، كما أشرنا سابقاً. ولا أحد يعرف عن الشهيد، سواء شعفه بهندسة الطيران ومخبره. تؤكد
غير أن بيان كتائب عز الدين القسام قلب رأساً على عقب المواقف، حين نعى الشهيد، واعتبره أحد أركان برنامجها العسكري، فمنذ ذلك البيان أصبح جزء كبير من وسائل الإعلام، حتى العمومية، ينعته بالشهيد، بعد أن كان مجرد "قتيل"، أو ضحية في أحسن الأحوال.
الأمر الذي أثار سخط الرأي العام الذي مال تدريجيا إلى فائدة الشهيد، مفتخراً به، معتبراً إياه بطلاً وطنياً، فهو موقف الحكومة التونسية التي تردّدت، منذ البداية، ولم تستطع تدارك الأمر، حتى بعد أن عقد وزير الداخلية مؤتمره الصحافي الذي سرد فيه ما غدا معروفاً أن الرجل اغتالته أجهزة مخابرات، بالتواطؤ مع أطراف تونسية وأجنبية، من دون أن يجرؤ على تسمية المخابرات الصهيونية، بدعوى التحفظات الرسمية في مثل هذه المواقف، الأمر الذي أثار غضب الرأي العام، غير أن الوزير الوحيد الذي تجرأ على تحميل الكيان الصهيوني جريمة الاغتيال هو الوزير مبروك كورشيد، ذي الخلفية القومية، حتى اعتبر بعضهم، أنه خرج عن التحفظ الحكومي.
عمدت الحكومة إلى إقالة محافظ منطقة صفاقس والمسؤولين الأمنيين الجهويين، خطوةً
لم تكن جنازة الرجل تليق به. لذلك نظم المجتمع المدني والأحزاب مسيرة شعبية إكراما له، مطالبين بإقامة جنازة رمزية رسمية له، كما طالبت المسيرة الهادرة بتجريم التطبيع مع إسرائيل، وقد لبت السطات التونسية قبل ذلك بيومين مطلباً، رفعته أصوات عديدة، حين منحت زوجته وثيقة الإقامة، في خطوة أولى لتكريم عائلته وتهدئة الرأي العام الذي اعتبر أن الموقف الحكومي لم يرتق إلى مستوى الجريمة النكراء التي ارتكبها العدو الصهيوني.
يجدّد الشهيد محمد الزواري، بميتته المشرّفة، تقليداً عريقاً، يؤكد ارتباط الشعب التونسي بالقضية الفلسطينية. لقد هب مئات التونسيين إلى الدفاع عن فلسطين، منذ ثلاثينيات القرن الماضي، كما احتضنوا منظمة التحرير وقواها العسكرية، حين ضاقت عليهم الأرض في صيف غائم سنة 1982.الثورة التونسية ثورة كرامة وحرية وعدل، لذلك لن تكون إلا توأماً للثورة الفلسطينية، ولو كره الكارهون.
الأصوات التي تحرّشت بحركة حماس منذ سنوات، واتهمتها باطلاً بأنها وراء الإرهاب الذي عرفته تونس، تعد شريكةً في الجريمة، بشكل أو بآخر، لأنها تتحمّل المسؤولية الأخلاقية للتحريض على الفلسطينيين، وكل المتعاطفين معهم.