04 نوفمبر 2024
تونس والتعديلات الدستورية المحتملة
تتواتر في تونس التصريحات، العلنية تارة، والملمحة تارة أخرى، حول إمكانية تعديل الدستور في الأشهر القليلة المقبلة، من أجل منح المزيد من الصلاحيات لرئيس الجمهورية، وهو الدستور الذي لم تمض على كتابته سنتان. يبدو لعديدين أن بعض فصوله شاخت قبل الأوان، أو هي ولدت منتهية الصلاحية، خصوصا في المواد التي لها علاقة بالحكم، وتحديداً البابين الثالث والرابع المخصصين تباعاً للسلطتين، التشريعية والتنفيذية. ربما كان لنا دستور من أفضل الدساتير في العالم، إلى حد جعل بعضهم يصف الثورة التونسية بالثورة الدستورانية، وقد يكون هذا الوصف هو الوحيد الذي يليق بثورتنا، بعد أن أخفقنا في جل الاستحقاقات الأخرى التي انتظرها الثائرون يوماً ما: العدالة والمساواة ودولة القانون... إلخ. ولكن، يظل عزاؤنا دستوراً جيداً في مناخ إقليمي، ظلت فيه الدساتير منعدمة، أو معطلة، أو لا تليق ببشرٍ يمشون في طرقٍ تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين.
لا شك أن للدستور، وهو نص يقاسم النصوص الكبرى خصائصها المشتركة، "أسباب نزوله"، أي خلفية الكتابة التي حفت به، والتي كانت مسكونةً بلحظة قرفٍ من نظام الحكم الاستبدادي الذي ثرنا عليه، واكتشفنا، على مستوى التوصيف القانوني، أنه كان مفرطاً في الرئاسوية. فاللحظة التي انكب فيها المجلس التأسيسي، آنذاك، على كتابة الدستور كانت مشحونةً بهواجس من كتبوه، أو من استشيروا في صياغته، ومن صوتوا أيضاً، فلا يخفى على أحد أن الدستور، مهما طمح إلى الأبدية والتسامي عن تفاصيل الأحداث الحافة به، يظل، في النهاية، إجابةً على تحديات جماعةٍ بشريةٍ مسكونةٍ بمخاوف، ومثقلة، في الوقت نفسه، بطموحات وأمانٍ تحلم بالتأبد. ولو انتفت تلك التفاصيل المنخرطة في لحظات شعوبها، لتطابقت كل الدساتير، وكانت نسخاً متماهية مع بعضها.
سعى الدستور التونسي الفتي إلى إغلاق المنافذ التي قد يتسلل منها الاستبداد عائداً، وقد كانت ماثلةً، في تلك اللحظة، في مؤسسة الرئاسة المتغولة، والتي سحقت السلطة التشريعية التي يفترض أن تكون ممثلة للشعب ومؤسسة لسيادته. ولكن، عجزنا، فيما بعد، عن تدقيق تفاصيل "النظام الجمهوري الديموقراطي التشاركي"، كما ورد في الدستور، وظل الشيطان ساكناً في تلك التفاصيل، خصوصاً في ثنايا علاقة المؤسسات الثلاث ببعضها، أو بالأحرى علاقة السلطة التشريعية بالسلطة التنفيدية تحديداً. فالدستور التونسي سكت عن تدقيق تلك المسائل، ليظل غائماً مبهماً، فهو لم ينص صراحة عن طبيعة نظام الحكم، ربما من نقط ضعف الدستور أو مناطقه الرمادية الملتبسة مسألة توزيع الصلاحيات بين مؤسستي السلطة التنفيدية، أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة التي بدت، أحياناً، متداخلةً، تقوم على مبدأ "التشاور" في مواضع عديدة، ما يترك مجالاً للمزاج في تجسيد ذلك التشاور، وقد رأينا أمثلة سابقاً، سواء في عهد الترويكا أو حتى الحكومات التي تلتها، عن عسر التشاور، حين تترك للأمزجة والاجتهادات الشخصية (تسليم البغدادي الحمودي، التعيينات في الهيئات المؤقتة، التسميات في الوظائف العليا المدنية والعسكرية... إلخ).
نعتقد أن التفكير، حالياً، في تعديلاتٍ دستوريةٍ، في مستوى نظام الحكم الذي يصفه بعضهم بالرئاسي المعدّل، أو التشريعي المعدل، أو "الشبه شبه"، تترجم صعوبات حقيقية مسّت، بعد أن وضعنا الدستور على محك التجربة، ثلاثة مستويات:
الأول، هندسة نظام الحكم القائم على توزيعٍ، متوازن قدر الإمكان، بين السلطات. ولكن، لكثرة
هذا الحرص، تم إضعاف السلطات الثلاث مجتمعة. لقد "بلقنت" مؤسسات الحكم والسلطتان، التشريعية و التنفيذية معاً. ثمة تداخل مرضي، سيؤدي، آجلا أو عاجلاً، إلى نزاع حدود، وهو نزاع لا يمكن تجنبه إلا على نحو غير طبيعي، إما بالتغافلات المتبادلة أو بالتنازلات المتبادلة.
المستوى الثاني الذي دفع بالتفكير في التعديلات الدستورية يعود، أيضاً، إلى افتقاد رئيس الحكومة كثيراً من الكفاءات القيادية، حتى بدا، أحياناً، غير قادر على التحكم في فريقه "الحاكم". وهذا يعود إلى أسبابٍ ذاتيةٍ، تخص الرجل، وأخرى موضوعية، هي في علاقة مباشرة بطريق توليه رئاسة الحكومة، فالدستور ينص في الفصل 89 على أنه في أجل أسبوع من الإعلان عن نتائج الانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي ... بتكوين الحكومة ...". ربما كان تعيين الحبيب الصيد رئيساً للحكومة، وهو من خارج الحزب الفائز، أي حزب نداء تونس، إما هروباً من تهمة "التغول" التي سارعت المعارضة، آنذاك، برفعها في وجه الحزب الفائز آنذاك، أو تهرباً من مسؤولية الحكم، حتى لا يدفع "نداء تونس" وحده فاتورة باهظة، لو أخفق في حل المعضلات الحقيقية التي حوّلها إلى شعارات انتخابية: هيبة الدولة، الشغل، العدالة بين الجهات، والدفاع عن النمط الحداثي لتونس.
المستوى الثالث، ضعف هيبة الدولة، واستيلاء المجتمع المدني على بعض مهامها ووظائفها، باسم التشاركية طوراً، وطوراً آخر تحت التمترس وراء قوة اللوبيات والتكتلات الفئوية. رأينا كيف استولت النقابات الأمنية، مثلاً، على مهام الإعلام الرسمي للداخلية، حيث أصبحت تلك النقابات ناطقة رسمياً موازياً باسم الداخلية، فيما يخص العمليات الأمنية الجارية، ورأينا أيضا كيف عملت بعض النقابات المدنية على لي ذراع الدولة، في أكثر من موضع، حيث مازالت نقابات الصحة ترفض أن يتولى المدير العام لمستشفى مدينة صفاقس مهامه. ورأينا كيف تملي أطراف أخرى مواقفها ورؤاها في مجال التربية والضريبة وتعطيل إنفاذ القانون. علينا أن نميّز بين التشاركية والتفريط في وظائف الدولة ومهامها، ففي الدول حتى الأكثر تشاركيةً على غرار الدول الاسكندنافية، تظل الدولة هذه متمسكةً بما لها.
لن يحل تنقيح الدستور المعضلات التي أشير إليها، هنا، ما لم نجد توافقات حول تلك القضايا.
لا شك أن للدستور، وهو نص يقاسم النصوص الكبرى خصائصها المشتركة، "أسباب نزوله"، أي خلفية الكتابة التي حفت به، والتي كانت مسكونةً بلحظة قرفٍ من نظام الحكم الاستبدادي الذي ثرنا عليه، واكتشفنا، على مستوى التوصيف القانوني، أنه كان مفرطاً في الرئاسوية. فاللحظة التي انكب فيها المجلس التأسيسي، آنذاك، على كتابة الدستور كانت مشحونةً بهواجس من كتبوه، أو من استشيروا في صياغته، ومن صوتوا أيضاً، فلا يخفى على أحد أن الدستور، مهما طمح إلى الأبدية والتسامي عن تفاصيل الأحداث الحافة به، يظل، في النهاية، إجابةً على تحديات جماعةٍ بشريةٍ مسكونةٍ بمخاوف، ومثقلة، في الوقت نفسه، بطموحات وأمانٍ تحلم بالتأبد. ولو انتفت تلك التفاصيل المنخرطة في لحظات شعوبها، لتطابقت كل الدساتير، وكانت نسخاً متماهية مع بعضها.
سعى الدستور التونسي الفتي إلى إغلاق المنافذ التي قد يتسلل منها الاستبداد عائداً، وقد كانت ماثلةً، في تلك اللحظة، في مؤسسة الرئاسة المتغولة، والتي سحقت السلطة التشريعية التي يفترض أن تكون ممثلة للشعب ومؤسسة لسيادته. ولكن، عجزنا، فيما بعد، عن تدقيق تفاصيل "النظام الجمهوري الديموقراطي التشاركي"، كما ورد في الدستور، وظل الشيطان ساكناً في تلك التفاصيل، خصوصاً في ثنايا علاقة المؤسسات الثلاث ببعضها، أو بالأحرى علاقة السلطة التشريعية بالسلطة التنفيدية تحديداً. فالدستور التونسي سكت عن تدقيق تلك المسائل، ليظل غائماً مبهماً، فهو لم ينص صراحة عن طبيعة نظام الحكم، ربما من نقط ضعف الدستور أو مناطقه الرمادية الملتبسة مسألة توزيع الصلاحيات بين مؤسستي السلطة التنفيدية، أي رئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة التي بدت، أحياناً، متداخلةً، تقوم على مبدأ "التشاور" في مواضع عديدة، ما يترك مجالاً للمزاج في تجسيد ذلك التشاور، وقد رأينا أمثلة سابقاً، سواء في عهد الترويكا أو حتى الحكومات التي تلتها، عن عسر التشاور، حين تترك للأمزجة والاجتهادات الشخصية (تسليم البغدادي الحمودي، التعيينات في الهيئات المؤقتة، التسميات في الوظائف العليا المدنية والعسكرية... إلخ).
نعتقد أن التفكير، حالياً، في تعديلاتٍ دستوريةٍ، في مستوى نظام الحكم الذي يصفه بعضهم بالرئاسي المعدّل، أو التشريعي المعدل، أو "الشبه شبه"، تترجم صعوبات حقيقية مسّت، بعد أن وضعنا الدستور على محك التجربة، ثلاثة مستويات:
الأول، هندسة نظام الحكم القائم على توزيعٍ، متوازن قدر الإمكان، بين السلطات. ولكن، لكثرة
المستوى الثاني الذي دفع بالتفكير في التعديلات الدستورية يعود، أيضاً، إلى افتقاد رئيس الحكومة كثيراً من الكفاءات القيادية، حتى بدا، أحياناً، غير قادر على التحكم في فريقه "الحاكم". وهذا يعود إلى أسبابٍ ذاتيةٍ، تخص الرجل، وأخرى موضوعية، هي في علاقة مباشرة بطريق توليه رئاسة الحكومة، فالدستور ينص في الفصل 89 على أنه في أجل أسبوع من الإعلان عن نتائج الانتخابات، يكلف رئيس الجمهورية مرشح الحزب أو الائتلاف الانتخابي ... بتكوين الحكومة ...". ربما كان تعيين الحبيب الصيد رئيساً للحكومة، وهو من خارج الحزب الفائز، أي حزب نداء تونس، إما هروباً من تهمة "التغول" التي سارعت المعارضة، آنذاك، برفعها في وجه الحزب الفائز آنذاك، أو تهرباً من مسؤولية الحكم، حتى لا يدفع "نداء تونس" وحده فاتورة باهظة، لو أخفق في حل المعضلات الحقيقية التي حوّلها إلى شعارات انتخابية: هيبة الدولة، الشغل، العدالة بين الجهات، والدفاع عن النمط الحداثي لتونس.
المستوى الثالث، ضعف هيبة الدولة، واستيلاء المجتمع المدني على بعض مهامها ووظائفها، باسم التشاركية طوراً، وطوراً آخر تحت التمترس وراء قوة اللوبيات والتكتلات الفئوية. رأينا كيف استولت النقابات الأمنية، مثلاً، على مهام الإعلام الرسمي للداخلية، حيث أصبحت تلك النقابات ناطقة رسمياً موازياً باسم الداخلية، فيما يخص العمليات الأمنية الجارية، ورأينا أيضا كيف عملت بعض النقابات المدنية على لي ذراع الدولة، في أكثر من موضع، حيث مازالت نقابات الصحة ترفض أن يتولى المدير العام لمستشفى مدينة صفاقس مهامه. ورأينا كيف تملي أطراف أخرى مواقفها ورؤاها في مجال التربية والضريبة وتعطيل إنفاذ القانون. علينا أن نميّز بين التشاركية والتفريط في وظائف الدولة ومهامها، ففي الدول حتى الأكثر تشاركيةً على غرار الدول الاسكندنافية، تظل الدولة هذه متمسكةً بما لها.
لن يحل تنقيح الدستور المعضلات التي أشير إليها، هنا، ما لم نجد توافقات حول تلك القضايا.