بنات وسط البلد
للمرّة الألف، أكتشف أن الانطباعات الأولى خادعة. ولكن، هذه المرة حمدت الله أنني اكتشفت خداعي سريعاً، فلوهلة فكرت أن أفتتح محل كوافير، حين التقيت سيدة راقية تدير محل الكوافير الذي قصدته في وسط البلد، وكانت تتحدث بلهجةٍ مهذبةٍ، وتبدو في تعاملها مع العاملات الصغيرات كأنها أمهن، لأنها كانت تشير عليهن بقولها: افعلي كذا وكذا يا ماما.
فكّرت وقتها أن من الرائع أن أفتتح محلاً كهذا، لأنها وصفته بأنه تجارةٌ بلا رأس مال، فهي قد احتاجت استئجار محل صغير، يقع أسفل بناية ضخمة، وبمبلغ صغير أيضاً، صممت ديكوراته، واستقدمت ثلاث فتيات للعمل فيه، في مجال تصفيف الشعر والماكياج. وقد جذبتني أناقتها ولباقتها الاجتماعية، وحولها الزبونات اللواتي يطرحن عليها مشكلاتهن الخاصة، وينتظرن رأيها بحكم خبرتها في الحياة، فهي، كما عرفت لاحقاً، في أواخر الخمسينيات من عمرها.
انقلبت انطباعاتي سريعاً، حين عنفت إحدى العاملات، لأن القفاز المطاطي تمزق بين أصابعها، وقالت لها: سأخصم ثمنه من راتبك، فأنا أخصص لك عدداً معيناً من القفازات كل يوم، وقد نفدت القفازات المخصصة لك.
كانت العاملة الصغيرة التي لم تبلغ العشرين بوجه شاحب، وشعر متقصف تعقصه إلى الخلف، تمسك بخصلات شعري، وتمشطها لكي تقصّها حسب طلبي، لكنها بدأت تشكو، وأنا أصغي لشكواها المحزنة، وبدت كمن تكلم نفسها، وهي تواصل عملها، وتنظر بتوجس لصاحبة الصالون، خشية أن تراها، فبدا حديثها متقطعاً، لملمته في قلبي، فاعتصر شفقة عليها، فهي نجحت في الثانوية العامة، ولم تستطع الالتحاق بالجامعة، وتوجهت إلى العمل، لتساعد والدها في تربية إخوتها الصغار، وتلقفتها هذه السيدة التي علمتها "الصنعة"، لكنها تبخسها جهدها، وتضنّ عليها براتب منتظم ومجز، حيث تحصل على ما يقارب 120 دولاراً أميركياً كل شهر، وتنقصه في شهور الشتاء، بسبب ندرة الأعراس والمناسبات، كما أن عليها أن تفتح الصالون باكراً، لتنظفه وتمسح أرضيته، وتجاري صاحبته في غش الزبونات، حيث تدّعي أنها تستخدم ماركات عالمية لصبغ الشعر فتؤيد كذبها، فليس بيدها حيلة، ثم صمتت وواصلت عراكها مع شعري، وكأنها تعارك صاحبة الصالون التي لم تسمح لها بالمغادرة قبل انتهاء الدوام بساعتين، لمرض والدها المفاجئ قبل يومين. وهمست من بين أسنانها أنها تختار العاملات لديها بمهارة، بحيث يكن دميمات، فهي ترى أن العاملة الجميلة قد يغرّر بها أحد العمال في المحال المجاورة، فتمنحه راتبها القليل، فيأتي والدها، ليتشاجر مع صاحبة الصالون، بحجة أنها تؤخر راتب ابنته الذي يتلقفه منها، لينفق على باقي أفراد العائلة، كما كل القصص المحزنة للفتيات العاملات في محال الكوافير، أو محال بيع الملابس النسائية.
أشارت بطرف خفي إلى إحدى زميلتيها، وهمست لي قائلة إنها كانت تعمل في روضة للأطفال، مقابل راتب لا يزيد عن الخمسين دولاراً، ولم تستمر في العمل، لأن صاحب الروضة كان يتحرّش بها، فيلاحقها حين تشرع بتنظيف حمامات الصغار، فتركت العمل، وقرّرت أن تتحمل العمل لدى هذه السيدة التي تبدو طيبة القلب، لكنها تكسب الأموال على حسابهن، ولا تعترف بأي تعويضاتٍ مقابل أي خطر قد يتعرّضن له، مثلما حدث مع زميلةٍ تركت العمل، بعد أن احترقت يداها، وهي تحاول أن تصب البنزين في المولد الذي يتم تشغيله في غرفة خلفية للصالون، في حال قطع الكهرباء، كما هي العادة في غزة.
حين كنت أجمع خصلات شعري، وأدسها تحت غطاء رأسي، وأدفع المال لصاحبة الصالون التي ذكرتني بـ "المعلمة" في الأفلام القديمة، نقلت نظري بين الفتاة البائسة وصاحبة الصالون، وكدت أصارح الأخيرة أني فكرت وهلةً أن أفتتح مثل هذا المشروع، لكني أخشى أن أتحول ربة عمل ظالمة، بسبب شهوة المال، ونزعة التسلط واستغلال غياب قانون تشغيل العاملات الفقيرات في المشاريع الخاصة، لكني ابتلعت لساني، وخرجت، ليبتلعني الشارع المزدحم في وسط البلد.