04 نوفمبر 2024
تونس: الإرهاب والفضاء العام والحياة الخاصة
لعلّ الشيء الثابت مع محنة الإرهاب التي تعصف ببلدان عديدة أن حياتنا الخاصة غدت إحدى أهم ضحاياه، ولو لم يمسسنا منه هباء. ضيقت المجتمعات التي ضربها الإرهاب، أو حتى التي لم يشملها بشكل مباشر، على الحريات، و لربما على حركة الحياة الخاصة بشكل دقيق. فللحياة الخاصة فضاؤها، وكلما تحرك الإرهاب، شلّ حركة الأفراد جسماً وروحاً وخيالاً. وانزوت حياتنا الخاصة في فضائنا الحميمي المهرّب في أسطح المنازل وخبايا الحدائق الخلفية. يصبح المنزل هو الفضاء الحياة، وتتقلص النزهة، وما شاكلها من أنواع الحركة الخارجية التي لا نأتيها إلا للضرورة القصوى. رأينا كيف تتحول المدن ليلاً إلى مقابر مخيفة، تسكنها الأشباح، ولا يعبرها البشر، إلا تحت ضروب الإكراه. ورأينا أيضاً كيف خلت الشوارع وهجرت الساحات العامة، وحتى المطاعم: كان ذلك حال بغداد وشوارعها الجميلة، حال مدن عربية أخرى على غرار دمشق و صنعاء والقاهرة وحتى طرابلس. الخوف والإرهاب يصنعان مساحتهما وجغرافيتهما. الخوف والرعب يعيدان رسم الخرائط وتشكيل الفضاء على نحو آخر. تختفي ممارسات حضرية ومدينية عديدة، لتنشأ أخرى بديلة عنها: يمّحي التنزه، التفسح، التسوق، وحتى شرب الشاي ولعب الورق في المقاهي ومداعبة السيقان كرة ملاعب الأحياء، وتبرز في المقابل ممارسات فضائية جديدة: القتل على الهوية، السلب والبطش وغيرها.
استطعنا في تونس أن نتأقلم مع محنة الإرهاب وأن نتعايش معها بكثير من الذكاء والابتكار، ولم يطبق فكيه على حياتنا الخاصة بشكل مطلق. ربما يحدث ذلك، بدرجاتٍ متفاوتةٍ لدى الأفراد والجماعات والجهات. ولكن، يبدو أننا لن نفلت من براثنه "الناعمة" هذه المرة، أي التي تعلقت بالتضييق على الحريات الفردية. ولكن في أشكال متخفية، تقدم مصلحة المواطن قبل كل شيء ذريعة. أطلق رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية في تونس، شوقي قدّاس، أخيراً، صيحة فزع إثر ما ورد، أخيراً، في إحدى بيانات وزارة الداخلية من تفاصيل مشروع تركيز نظام مراقبة بالكاميرات، في أكثر من ثماني مدن تونسية، خلال السنة الحالية والتي تتلوها.
بينت وزارة الداخلية في بيانها المذكور سابقاً أن مراحل مشروع تركيز نظام مراقبة بالكاميرات، سيتم إنجازه على مرحلتين: الأولى تركيز 300 نقطة في تونس الكبرى، بما يقارب 1200 كاميرا في الجملة، وسيتم بالموازاة إنشاء مركز رئيس للتصرف والمراقبة. وإلى جانب تونس الكبرى، سيتم ضم أربع ولايات (محافظات)، القصرين والكاف وسيدي بوزيد وجندوبة. المرحلة الثانية، تركيز 30 نقطة مراقبة وإضافة 100 نقطة مراقبة في تونس الكبرى أيضاً.
هكذا، سنجد أنفسنا أمام خريطة للخوف والحذر والمخاطر، ترسم حدودها التهديدات الحقيقية التي ترسخت، بفعل ما قامت به المجموعات الإرهابية، أو ما نام من خلايا في بلادنا. ولا نحتاج إلى ذكاء كبير، حتى نكتشف أن لنا خارطة جديدة لوطننا، رسمها لنا، كما ذكرنا، الإرهاب. ففي مثل هذه الحالات، تنقسم البلدان إلى مناطق آمنة وأخرى غير آمنة تستوجب ترسانة من الإجراءات والسلوكات الخاصة. ستصبح حياتنا قريباً في تلك المناطق تحت المراقبة "الحميدة". ولكن، هذه المرة باسم حمايتنا والخوف عنا. سيتنازل الناس تحت الخوف والرغبة في الأمن عن حرياتهم، ويعرضونها بلا مقابل، فقط بحثاً عن الأمن. وقد يطالبون بمزيد من الكاميرات.
يشكل الإرهاب وما يبعثه من خوف، حقيقي أحياناً ومبالغ فيه أحيانا أخرى بفعل آلة التخويف
التي تصنعه، استثماراً بأشكالٍ مختلفة منها: التسويق للحروب والآلة العسكرية وتكنولوجيا الحراسة والمراقبة، فالتكنولوجيا والتطبيقات الإعلامية وشركات الخدمات الأمنية المتنامية حريصة على ألا تفوت الفرصة. رأينا كيف تم التضييق على الحريات ومصادرتها، أحياناً بشكل فيه كثير من العسف وهدر حقوق الإنسان. ولعل المثال المصري يظل الأبلغ في مثل هذا الاستثمار. لا يبدي التونسيون اكتراثاً كبيراً بما سيهدر من حقوقهم، مع تركيز هذه الترسانة الكبيرة من المراقبة الناعمة، ما يجعل حياتهم الخاصة عرضةً للاختراق والتقلص بفعل الخوف من الإرهاب، أو بالغ الاحتياط للحفاظ على خصوصية حياتهم تلك. ربما لأن أولويات حقوقهم، إذا جاز أن تكون الحقوق من أولويات المواطن التونسي حالياً هي غير المتعلقة بالمعطيات الشخصية، واختراقها الناعم، فالشغل والأمن والعدالة والتغذية وغيرها قضايا تحتل حالياً أولوية الأولويات.
ستصبح الكاميرا معلقةً في سماوات تونس كأنها أقمار مصغرة، أو هي ثريا سماؤها ما بعد الثورة. لم يثر هذا المشروع معارضة تُذكر، حتى لدى النخب السياسية والحقوقية، فهي إما تحت وقع مؤتمرات الأحزاب وخلافاتها الدائمة، أو هي منخرطة في معارك التثبت من جنس الملائكة وكرامات الأولياء الصالحين، على غرار سيدي عمر الفياش (ولي أحمق كان يمشي عارياً في الأسواق، وتروى عنه "كرامات خارقة"، يؤمن بها بعض من أوليائه من الجامعيين الحداثيين). وتلاشت صرخة شوقي قداس في زحمة تلك الأولويات والاهتمامات. وقد ذهب الرجل إلى حد التحذير من وجود سوق دولي، تشترى وتباع فيه المعطيات الخاصة للتونسيين بثمن بخس.
ستخترق منظومة المراقبة تلك حياتنا الخاصة، وتعتدي على المعطيات المتعلقة بها. ولكن ستثير مع ذلك مشكلاً فلسفياً محيراً. فإذا كان هذا الفضاء (الشارع، الساحات، المتاجر، المقاهي، النزل، الطرقات) جماعياً، أو بالأحرى فضاءً مشتركاً وعاماً، فإنه أيضاً، في الوقت نفسه، يعد فضاء خاصاً، نلقي فيه بخصوصياتنا الأكثر حميمية. ستنقل تلك الكاميرات، وتسجل وتحصي حميمياتنا، من قبيل مع من احتسينا كأس شاي (وكؤوساً أخرى، لم لا؟)، ومن رافقنا في جولتنا على الكورنيش، ومن اصطحبنا إلى قاعات السينما إلخ.
سيحدث هذا كله في بلدنا، في سياقٍ تتنامي فيه أزمة الثقة بين المواطنين وجل أجهزة الدولة، من دون استثناء. ولن ينسى التونسيون بسهولة أن عديداً من معطياتهم الشخصية شكلت، في السنوات الأخيرة، سوقاً في المزاد العلني لمن يدفع أكثر. وتتعاظم الظنون في غياب النصوص القانونية الكفيلة بصون تلك المعطيات، فقانون 2004 لم يكن له من الخيال والرغبة في حماية تلك المعطيات أصلاً.
استطعنا في تونس أن نتأقلم مع محنة الإرهاب وأن نتعايش معها بكثير من الذكاء والابتكار، ولم يطبق فكيه على حياتنا الخاصة بشكل مطلق. ربما يحدث ذلك، بدرجاتٍ متفاوتةٍ لدى الأفراد والجماعات والجهات. ولكن، يبدو أننا لن نفلت من براثنه "الناعمة" هذه المرة، أي التي تعلقت بالتضييق على الحريات الفردية. ولكن في أشكال متخفية، تقدم مصلحة المواطن قبل كل شيء ذريعة. أطلق رئيس الهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية في تونس، شوقي قدّاس، أخيراً، صيحة فزع إثر ما ورد، أخيراً، في إحدى بيانات وزارة الداخلية من تفاصيل مشروع تركيز نظام مراقبة بالكاميرات، في أكثر من ثماني مدن تونسية، خلال السنة الحالية والتي تتلوها.
بينت وزارة الداخلية في بيانها المذكور سابقاً أن مراحل مشروع تركيز نظام مراقبة بالكاميرات، سيتم إنجازه على مرحلتين: الأولى تركيز 300 نقطة في تونس الكبرى، بما يقارب 1200 كاميرا في الجملة، وسيتم بالموازاة إنشاء مركز رئيس للتصرف والمراقبة. وإلى جانب تونس الكبرى، سيتم ضم أربع ولايات (محافظات)، القصرين والكاف وسيدي بوزيد وجندوبة. المرحلة الثانية، تركيز 30 نقطة مراقبة وإضافة 100 نقطة مراقبة في تونس الكبرى أيضاً.
هكذا، سنجد أنفسنا أمام خريطة للخوف والحذر والمخاطر، ترسم حدودها التهديدات الحقيقية التي ترسخت، بفعل ما قامت به المجموعات الإرهابية، أو ما نام من خلايا في بلادنا. ولا نحتاج إلى ذكاء كبير، حتى نكتشف أن لنا خارطة جديدة لوطننا، رسمها لنا، كما ذكرنا، الإرهاب. ففي مثل هذه الحالات، تنقسم البلدان إلى مناطق آمنة وأخرى غير آمنة تستوجب ترسانة من الإجراءات والسلوكات الخاصة. ستصبح حياتنا قريباً في تلك المناطق تحت المراقبة "الحميدة". ولكن، هذه المرة باسم حمايتنا والخوف عنا. سيتنازل الناس تحت الخوف والرغبة في الأمن عن حرياتهم، ويعرضونها بلا مقابل، فقط بحثاً عن الأمن. وقد يطالبون بمزيد من الكاميرات.
يشكل الإرهاب وما يبعثه من خوف، حقيقي أحياناً ومبالغ فيه أحيانا أخرى بفعل آلة التخويف
ستصبح الكاميرا معلقةً في سماوات تونس كأنها أقمار مصغرة، أو هي ثريا سماؤها ما بعد الثورة. لم يثر هذا المشروع معارضة تُذكر، حتى لدى النخب السياسية والحقوقية، فهي إما تحت وقع مؤتمرات الأحزاب وخلافاتها الدائمة، أو هي منخرطة في معارك التثبت من جنس الملائكة وكرامات الأولياء الصالحين، على غرار سيدي عمر الفياش (ولي أحمق كان يمشي عارياً في الأسواق، وتروى عنه "كرامات خارقة"، يؤمن بها بعض من أوليائه من الجامعيين الحداثيين). وتلاشت صرخة شوقي قداس في زحمة تلك الأولويات والاهتمامات. وقد ذهب الرجل إلى حد التحذير من وجود سوق دولي، تشترى وتباع فيه المعطيات الخاصة للتونسيين بثمن بخس.
ستخترق منظومة المراقبة تلك حياتنا الخاصة، وتعتدي على المعطيات المتعلقة بها. ولكن ستثير مع ذلك مشكلاً فلسفياً محيراً. فإذا كان هذا الفضاء (الشارع، الساحات، المتاجر، المقاهي، النزل، الطرقات) جماعياً، أو بالأحرى فضاءً مشتركاً وعاماً، فإنه أيضاً، في الوقت نفسه، يعد فضاء خاصاً، نلقي فيه بخصوصياتنا الأكثر حميمية. ستنقل تلك الكاميرات، وتسجل وتحصي حميمياتنا، من قبيل مع من احتسينا كأس شاي (وكؤوساً أخرى، لم لا؟)، ومن رافقنا في جولتنا على الكورنيش، ومن اصطحبنا إلى قاعات السينما إلخ.
سيحدث هذا كله في بلدنا، في سياقٍ تتنامي فيه أزمة الثقة بين المواطنين وجل أجهزة الدولة، من دون استثناء. ولن ينسى التونسيون بسهولة أن عديداً من معطياتهم الشخصية شكلت، في السنوات الأخيرة، سوقاً في المزاد العلني لمن يدفع أكثر. وتتعاظم الظنون في غياب النصوص القانونية الكفيلة بصون تلك المعطيات، فقانون 2004 لم يكن له من الخيال والرغبة في حماية تلك المعطيات أصلاً.