02 نوفمبر 2024
قبح ليبرالي وعنصرية في لبنان
يقول مراسل إحدى المحطات الإذاعية اللبنانية، في معرض تغطيته العمليات الأمنية للجيش اللبناني، بعد الهجمات الانتحارية التي استهدفت بلدة القاع، الشهر الماضي، إن اللاجئين السوريين الذين فرض عليهم حظر التجول، ليتحوّلوا إلى أسرى في مخيماتهم، مقتنعون تماماً بضرورة الإجراءات المفروضة عليهم، ولديهم كامل التفهم لها. المراسل المهني الذي لم يكلف نفسه بنقل صوتٍ واحدٍ على الأقل، من هؤلاء المتفهمين للإجراءات التعسفية ضدهم، يقدّم الأمر على أنه ترتيب أمني بسيط في خطاب "وطني" عاطفي، يتماهى مع البيانات الرسمية لمسؤول سياسي.
قبح عنصري طائفي، مذهبي رجعي... يجتاح لبنان. موجة من القبح بألوان متنوّعة تعصف بالبلاد التي نحبّ أن نعتقد أنها لا تزال ليبرالية، ولا تزال تقدم نافذةَ من الهواء الحر غير المقنن في عالمٍ عربيٍّ يزداد انغلاقا.
صور لاجئين سوريين، موقوفين، على يد شرطة البلديات في ممارساتٍ أقل ما يقول عنها إنها مذلّة، وتذكّر بممارسات غيتوات النازية. يتعايش لبنان الليبرالي مع ما بات يمثّل مشهداً يومياً في حياة اللبنانيين، تنقله غالبية الإعلام اللبناني على أنه إجراءٌ قانونيٌّ عاديٌّ في ضبط الأمن، وتوقيف اللاجئين من غير حاملي الأوراق الرسمية. وسط الضخ السياسي والإعلامي المعادي للاجئين بحجة الأمن، تعتبر مشاهد تركيع السوريين الموقوفين من منازلهم، وتصويرهم في وضعياتٍ مذلةٍ أمراً عادياً بالنسبة لغلاة "وطنيّة" قبيحة، حولت الإجراءات الأمنية التي كان من المفترض أن تكون قانونيةً وإنسانيةً إلى مناسبةٍ للتشفّي السياسي، ودغدغة المشاعر الدفينة والمعلنة لدى فئةٍ واسعةٍ من اللبنانيين، ترى في إذلال السوريين انتصاراً لهويةٍ ما.
ليست الظاهرة العنصرية المتفاقمة وليدة تفجيرات بلدة القاع، وما بعدها، بل وثيقة الصلة بخطابٍ سياسيٍّ عنصريٍّ على المفضوح يدعمه صمتٌ رسميٌّ أشدّ عنصرية. تنقل مواقع إلكترونية يومياً تعبيراتٍ عنصرية عدة، من الشتيمة إلى رسم شعاراتٍ على الجدران، تدعو اللاجئين السوريين إلى الرحيل، إلى ضرب أطفال سوريين يمارسون التسوّل في الشوارع، إلى إجبار أطفالٍ سوريين على الركوع أمام العلم اللبناني، إلى التعرّض للاجئين بالضرب والطعن. وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد رصدت انتهاكاتٍ يقوم بها الجيش اللبناني بحق اللاجئين السوريين، في عمليات اقتحامٍ لمخيمات اللاجئين، ومنها قصف عشوائي وقتل وضرب وتنكيل، كما تحدثت الشبكة عن حالات تعذيبٍ للاجئين سوريين أفضت، في حالاتٍ، إلى الموت.
لا توجد إحصاءاتٌ رسميةٌ لضحايا ظاهرة العنصرية المتنامية، كما لا يوجد رصد لمختلف
أشكالها، إلا أن الخطر الأكبر هو التناغم السياسي الإعلامي الضمني في تعميم فهمٍ يقدّم هذه الممارسات على أنها ترتيبٌ أمنيٌّ عاديٌّ لا بد منه، وأن أشكال العنصرية المتنامية ليست سوى ردة فعل طبيعيةٍ لما يعانيه اللبنانيون من شظفٍ، بسبب التبعات الأمنية والاقتصادية لاستقبال اللاجئين السوريين.
على أي أساسٍ قانوني، أو لا قانوني، اعتمدت البلديات في تنفيذ إجراءاتٍ أقل ما يقال عنها إنها فاشية، على مثال منع تجول اللاجئين السوريين، بعد ساعةٍ معينةٍ من الليل، أو منع خروجهم من مخيماتهم ليلاً ونهاراً، أو القيام بحملات توقيف تعسفيةٍ، تمارس فيها أشكال الإذلال على الموقوفين، بحجة أنهم لا يملكون الأوراق الرسمية المطلوبة، عوضاً عن تحديد إجراءاتٍ وآلياتٍ واضحةٍ لقوننة وضع هؤلاء؟ ما الذي يفسّر صمت وزير الداخلية والبلديات عن هذه الممارسات التي باتت ظاهرةً معممةً في مختلف البلديات، محولةً إياها الى ما يشبه المعتقلات في أكثر ظواهر الانفلات من القانون وقاحةً؟
يواجه الخطاب الإنساني للمجتمع المدني الذي نزل، أخيراً، إلى الشارع حاملاً شعارات تندّد بالثقافة العنصرية خطاباً سياسياً وإعلامياً، ماض في تبرير العنصرية وتأطيرها في لباس "وطني". يقود الخطاب المقذع وزير خارجية لبنان، جبران باسيل، في تصريحاته المتعاظمة في غبائها، كما في فاشيتها العلنية. يقود باسيل حملة تخويفٍ من توطين سوريٍّ في لبنان، كأن يحذر أخيراً المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من استمرار تسجيل الولادات السورية في لبنان، على الرغم من أن التسجيل هو عملية توثيق للولادة، ولا أثر قانونياً له. حرّض الوزير نفسه رسمياً على الإجراءات العنصرية ضد السوريين، داعياً إلى تفتيش أي تجمع للسوريين، باعتباره مصدراً للخطر، ومنع تجمعات النازحين السوريين داخل البلديات، ومنع فرص العمل عن السوريين التي، برأيه، تُؤخذ من طريق اللبنانيين. لم يدع وزير "السيادة اللبنانية" مناسبةً إلا واستغلها لتفريغ حقده العنصري على كل ما لا يتناسب مع تعريفه للهوية اللبنانية والمواطنة الصالحة، متحوّلا بذلك إلى منبرٍ لخطاب الحقد، والدعوة إلى العنف في حق اللاجئين.
ومن الحقد العنصري إلى ارتفاع نبرة أصوات الرجعية المذهبية والدينية. طرد الزميل إيلي الحاج من عمله في إذاعة الشرق، بسبب موقف على صفحته في "فيسبوك" اعتبر "مسيئاً للإسلام"، في حين اقتصر على طرح تساؤلٍ حول تفسير بعض الآيات القرآنية. نزع إعلانٌ للبيرة في منطقة طريق الجديدة في بيروت، ومحاولات مماثلة في مدينة طرابلس. بلدية جبشيت تفرض على المحال التجارية الإقفال نصف ساعة في أوقات الصلاة. بلدية أخرى تمنع اقتراب النساء من مسبحٍ عمومي، بحجة إمكان إثارة شهوات الرجال. صحافيون يدافعون عن مقاطعة مطاعم تستقبل مفطرين خلال شهر رمضان. طالبات في أحد فروع الجامعة اللبنانية يتعرّضن لتهديداتٍ من طلاب بسبب ارتدائهن تنانير قصيرة...
كيف نتعايش مع هذا القبح المتّسعة رقعته كل يوم في لبنان الليبرالي؟ حسناً فعل ناشطو المجتمع المدني في رفع شعاراتٍ تذكّر اللبنانيين العنصريين بأنهم كانوا، ولا يزالون، لاجئين في أغلب حالاتهم في دول العالم. "لما تهين لاجئ ما تنسى إنو خالتك بكندا، عمك بباريس، جدك بالبرازيل، وخيك بالإمارات"، يقول شعارٌ حمله الناشطون، ويذكّر أولئك المتباهين بانتشارهم العالمي أن العدد الأكبر منهم كان، ولا يزال، في وضعية لاجئ أو مقيم أو نازح أو مهاجر اقتصادي، قبل حصوله على جنسية البلد المضيف، إذا ما وجد إلى ذلك سبيلا. ماذا لو عمدت بلديات دول الغرب التي تستضيفنا إلى منعنا من مغادرة منازلنا، كلما قام إرهابي بعملية باسم الإسلام، على مثال تعامل بلديات لبنان مع اللاجئين السوريين؟ قد يقول عندها غلاة العنصرية اللبنانية "معهم حق".
قبح عنصري طائفي، مذهبي رجعي... يجتاح لبنان. موجة من القبح بألوان متنوّعة تعصف بالبلاد التي نحبّ أن نعتقد أنها لا تزال ليبرالية، ولا تزال تقدم نافذةَ من الهواء الحر غير المقنن في عالمٍ عربيٍّ يزداد انغلاقا.
صور لاجئين سوريين، موقوفين، على يد شرطة البلديات في ممارساتٍ أقل ما يقول عنها إنها مذلّة، وتذكّر بممارسات غيتوات النازية. يتعايش لبنان الليبرالي مع ما بات يمثّل مشهداً يومياً في حياة اللبنانيين، تنقله غالبية الإعلام اللبناني على أنه إجراءٌ قانونيٌّ عاديٌّ في ضبط الأمن، وتوقيف اللاجئين من غير حاملي الأوراق الرسمية. وسط الضخ السياسي والإعلامي المعادي للاجئين بحجة الأمن، تعتبر مشاهد تركيع السوريين الموقوفين من منازلهم، وتصويرهم في وضعياتٍ مذلةٍ أمراً عادياً بالنسبة لغلاة "وطنيّة" قبيحة، حولت الإجراءات الأمنية التي كان من المفترض أن تكون قانونيةً وإنسانيةً إلى مناسبةٍ للتشفّي السياسي، ودغدغة المشاعر الدفينة والمعلنة لدى فئةٍ واسعةٍ من اللبنانيين، ترى في إذلال السوريين انتصاراً لهويةٍ ما.
ليست الظاهرة العنصرية المتفاقمة وليدة تفجيرات بلدة القاع، وما بعدها، بل وثيقة الصلة بخطابٍ سياسيٍّ عنصريٍّ على المفضوح يدعمه صمتٌ رسميٌّ أشدّ عنصرية. تنقل مواقع إلكترونية يومياً تعبيراتٍ عنصرية عدة، من الشتيمة إلى رسم شعاراتٍ على الجدران، تدعو اللاجئين السوريين إلى الرحيل، إلى ضرب أطفال سوريين يمارسون التسوّل في الشوارع، إلى إجبار أطفالٍ سوريين على الركوع أمام العلم اللبناني، إلى التعرّض للاجئين بالضرب والطعن. وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد رصدت انتهاكاتٍ يقوم بها الجيش اللبناني بحق اللاجئين السوريين، في عمليات اقتحامٍ لمخيمات اللاجئين، ومنها قصف عشوائي وقتل وضرب وتنكيل، كما تحدثت الشبكة عن حالات تعذيبٍ للاجئين سوريين أفضت، في حالاتٍ، إلى الموت.
لا توجد إحصاءاتٌ رسميةٌ لضحايا ظاهرة العنصرية المتنامية، كما لا يوجد رصد لمختلف
على أي أساسٍ قانوني، أو لا قانوني، اعتمدت البلديات في تنفيذ إجراءاتٍ أقل ما يقال عنها إنها فاشية، على مثال منع تجول اللاجئين السوريين، بعد ساعةٍ معينةٍ من الليل، أو منع خروجهم من مخيماتهم ليلاً ونهاراً، أو القيام بحملات توقيف تعسفيةٍ، تمارس فيها أشكال الإذلال على الموقوفين، بحجة أنهم لا يملكون الأوراق الرسمية المطلوبة، عوضاً عن تحديد إجراءاتٍ وآلياتٍ واضحةٍ لقوننة وضع هؤلاء؟ ما الذي يفسّر صمت وزير الداخلية والبلديات عن هذه الممارسات التي باتت ظاهرةً معممةً في مختلف البلديات، محولةً إياها الى ما يشبه المعتقلات في أكثر ظواهر الانفلات من القانون وقاحةً؟
يواجه الخطاب الإنساني للمجتمع المدني الذي نزل، أخيراً، إلى الشارع حاملاً شعارات تندّد بالثقافة العنصرية خطاباً سياسياً وإعلامياً، ماض في تبرير العنصرية وتأطيرها في لباس "وطني". يقود الخطاب المقذع وزير خارجية لبنان، جبران باسيل، في تصريحاته المتعاظمة في غبائها، كما في فاشيتها العلنية. يقود باسيل حملة تخويفٍ من توطين سوريٍّ في لبنان، كأن يحذر أخيراً المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من استمرار تسجيل الولادات السورية في لبنان، على الرغم من أن التسجيل هو عملية توثيق للولادة، ولا أثر قانونياً له. حرّض الوزير نفسه رسمياً على الإجراءات العنصرية ضد السوريين، داعياً إلى تفتيش أي تجمع للسوريين، باعتباره مصدراً للخطر، ومنع تجمعات النازحين السوريين داخل البلديات، ومنع فرص العمل عن السوريين التي، برأيه، تُؤخذ من طريق اللبنانيين. لم يدع وزير "السيادة اللبنانية" مناسبةً إلا واستغلها لتفريغ حقده العنصري على كل ما لا يتناسب مع تعريفه للهوية اللبنانية والمواطنة الصالحة، متحوّلا بذلك إلى منبرٍ لخطاب الحقد، والدعوة إلى العنف في حق اللاجئين.
ومن الحقد العنصري إلى ارتفاع نبرة أصوات الرجعية المذهبية والدينية. طرد الزميل إيلي الحاج من عمله في إذاعة الشرق، بسبب موقف على صفحته في "فيسبوك" اعتبر "مسيئاً للإسلام"، في حين اقتصر على طرح تساؤلٍ حول تفسير بعض الآيات القرآنية. نزع إعلانٌ للبيرة في منطقة طريق الجديدة في بيروت، ومحاولات مماثلة في مدينة طرابلس. بلدية جبشيت تفرض على المحال التجارية الإقفال نصف ساعة في أوقات الصلاة. بلدية أخرى تمنع اقتراب النساء من مسبحٍ عمومي، بحجة إمكان إثارة شهوات الرجال. صحافيون يدافعون عن مقاطعة مطاعم تستقبل مفطرين خلال شهر رمضان. طالبات في أحد فروع الجامعة اللبنانية يتعرّضن لتهديداتٍ من طلاب بسبب ارتدائهن تنانير قصيرة...
كيف نتعايش مع هذا القبح المتّسعة رقعته كل يوم في لبنان الليبرالي؟ حسناً فعل ناشطو المجتمع المدني في رفع شعاراتٍ تذكّر اللبنانيين العنصريين بأنهم كانوا، ولا يزالون، لاجئين في أغلب حالاتهم في دول العالم. "لما تهين لاجئ ما تنسى إنو خالتك بكندا، عمك بباريس، جدك بالبرازيل، وخيك بالإمارات"، يقول شعارٌ حمله الناشطون، ويذكّر أولئك المتباهين بانتشارهم العالمي أن العدد الأكبر منهم كان، ولا يزال، في وضعية لاجئ أو مقيم أو نازح أو مهاجر اقتصادي، قبل حصوله على جنسية البلد المضيف، إذا ما وجد إلى ذلك سبيلا. ماذا لو عمدت بلديات دول الغرب التي تستضيفنا إلى منعنا من مغادرة منازلنا، كلما قام إرهابي بعملية باسم الإسلام، على مثال تعامل بلديات لبنان مع اللاجئين السوريين؟ قد يقول عندها غلاة العنصرية اللبنانية "معهم حق".