ملابس جديدة للعيد
خلصت دراسة ألمانية إلى أننا، نحن الكبار، نشعر بالمتعة، ونرضي نوازع دفينة في أعماقنا، حين نشتري لأطفالنا الألعاب والملابس الجديدة. ونجد متعةً شخصيةً حين نلف بين جنبات محال الألعاب وملابس الأطفال، لأن أطفالنا أنفسهم ما زالوا في سن صغيرةٍ، لم يحدّدوا خياراتهم ولا أذواقهم، لكننا نرضي خبايانا، وربما ما لم نستطع تحقيقه، والحصول عليه، حين كنا صغاراً، فنتسوق معلقين شغفنا على شماعة أطفالنا، فلا تتردّد أي زوجة عن شراء أحدث الملابس والألعاب لصغارها، حتى وهم ليسوا بحاجة لها، لأنها تراها جميلةً كملابس، ومشوقة كألعاب.
جعلتني هذه الدراسة ألتمس بعض العذر للحمّى الشرائية، التي تصيب الزوجات، خصوصاً في مواسم الأعياد، فربما كانت لدى إحداهن خبرة سابقة أليمة، مثلما حدث معي، فعندما كنا صغاراً، أنا وأخوتي، في ثمانينات القرن الماضي، كانت أمي تقوم بشراء قطعة قماش كبيرة يطلق عليها اسم "الثوب"، وهي من لونٍ واحدٍ من بائع أقمشةٍ شهير، ما زال أبناؤه وأحفاده يحتكرون المهنة، وتحمّله أمي لجارتنا الخياطة، فتقص منه ملابس العيد لي ولأخوتي، ذكوراً وإناثاً، وتصنع من بقاياه شرائط لضفائر البنات، وتعجب جارتنا الخياطة باللون والنقش اللذيْن اختارتهما أمي، فتقصد السوق في صبيحة اليوم التالي، وتشتري "ثوباً" آخر لأطفالها، وما إن يحل يوم العيد، حتى يصبح كل أولاد الجيران وبناتهم، يرتدون الثياب نفسها.
وعلى الرغم من ذلك، لم نكن نشعر بالغضب، أو الحنق، لأننا جميعاً نرتدي "الزي" نفسه، بل على العكس، كنا نشبك أيدينا بأيدي بعض، ونسرع خطانا نحو الأرجوحة المصنوعة من الخشب والحبال، التي ينصبها جارنا العجوز في باحةٍ خلفيةٍ للحي، وكنا نحرص على نظافة "أواعي العيد"، لكي نلبسها ثلاثة أيام، ولا نخلعها إلا عندما ينال منا التعب، ونخلد إلى النوم.
كنت راضية باختيار أمي، علماً بأن القماش الذي قد تختاره في عام قد يصبح موضة لكساء الحشيات والوسائد أو حتى الستائر. وعلى الرغم من شعوري بالمهانة، حين أرى قماش فستاني نفسه يكسو حشيةً أرضية، إلا أنني كنت قانعةً لأني لم أكن أرى أحداً يرتدي غير هذه التشكيلة، فكل من ألتقي بهم في أيام العيد هم أطفال الجيران، حتى بدأت حركة التمرد بداخلي تشتعل، حين يتصادف العيد مع عودة أقاربي من أعمامي وأخوالي إلى غزة من دول الخليج، حيث يعملون طول العام، ويقرّرون النزول إلى غزة لقضاء شهر رمضان وعيد الفطر. وهنا، كانت الغيرة تنهش قلبي الصغير، وأبكي في صمت، لأني أرى أطفالهم، وخصوصاً البنات، يرتدون ملابس مزركشة، ورائحتها عطرة، وتلتصق بياقاتها من الداخل قطع صغيرة مكتوب عليها أرقام وكلمات بالإنجليزية. ولم أكن أعرف أن هذه بطاقات تعريفية للملابس، فكنت أنكمش على نفسي، وهم يرفلون بها أمامي، وأشعر أنني كالبطة السوداء بين كتاكيت الدجاجة، وينقلب العيد إلى حزنٍ وكمد، وينتهي نهاره الأول، وأنا أنزوي في غرفتي باكيةً، ولم أكن أعاود المرح واللعب والانطلاق، إلا حين تنتهي إجازة هؤلاء الدخلاء، ويعودون إلى البلاد التي جاؤوا منها، ويتحدّثون عنها كأنها بلاد خيالية، كالتي سمعنا عنها في حواديث الجدات.
سنوات كثيرة مرت، ولم أنس هذه الذكريات الأليمة، وأن مدينتي الصغيرة لم تكن فيها محال لملابس جاهزة جميلة، بل كان اعتماد السكان على خياطة الملابس، قبل أن تنشط حركة التجارة بين مصر والأردن وغزة، وتمتلئ الأسواق بالبضائع من البلد الأم التي تورد الملابس الجاهزة إلى دول الخليج، مثل الصين وتايلاند. وانقرضت الخياطة النسائية، وتخلى أبي نفسه عن الخياط الرجالي، لأنه أصبح يجد بدلاً رسمية جاهزة في الأسواق. وهكذا، وحين أصبحت أماً لعدة صغار، كنت أقصد محال ملابس الأطفال، أنتقي أجملها لأطفالي، بعد أن أقلبها بين يدي مراتٍ ومراتٍ، وأتشمم رائحتها، وأتأكد من وجود البطاقات التعريفية على ياقاتها الداخلية.