أيلول وطفله المبلول
يعود أيلول، مرّة أخرى، ليذكّرنا بالمثل الشعبي الفلسطيني الذي يصفه خير وصف حين يقول: "أيلول طرفه مبلول".. لكنه يعود، هذه المرّة، ليلقينا على ذلك الشاطئ البعيد، إلى جانب "الطفل المبلول" إيلان الكردي، بألوانه القزحية، كألوان أيلول نفسها، المشدودة إلى قوسٍ من الأصفر الباهت.
ولعل علماء النفس لم يبتعدوا عن جادّة الصواب، حين أكّدوا أن أشهر الخريف تجعلنا مسرفين في الوعود، لأن أرواحنا تكون قد اجتازت صيفاً صاخباً، يسبقه ربيعٌ حميم، فهل ينطبق ما ذهب إليه هؤلاء فعلاً مع ما تكشف عنه موقف العالم حيال إيلان الذي عثر على جثته على الشاطئ التركي في أيلول العام الماضي؟ وهل ذابت الوعود وتبخرّت العهود بعدم تكرار حادثة غرق الطفل الهارب من جحيم الحرب، بعد هذا التاريخ؟ فالواقع يشير إلى أن موقف العالم من حادثة الطفل إيلان يشبه أجواء أيلول فعلاً التي عبر عنها المثل الفلسطيني أعلاه، بمعنى أنه متقلب الأحوال، فأوله صيفٌ وآخره مطر، وهذا ما يحدث فعلاً على أرض الواقع، فمن المؤسف أن يمر عام ويأتي أيلول جديد، فيما يبدو أن العالم الذي ثار على حادثة غرق الطفل إيلان قد ندم على تعاطفه.
نستعيد، مثلاً، موقف ألمانيا التي وافقت، بعد يومين من غرق إيلان، على دخول آلاف اللاجئين المحاصرين في المجر، بينما وعدت كندا بإيواء نحو 25 ألف سوري، فيما وعد أغلب القادة الأوروبيين بتشارك مسؤولية اللاجئين الذين يصلون إلى شواطئ اليونان وإيطاليا. لكن، وبعد عام على المأساة، نجد أن أوروبا قبلت فقط بحوالي خمسة آلاف لاجئ قادمين من اليونان، عبر الممر الإنساني البلقاني الذي أعادت إغلاقه، على الرغم من أنها وعدت بقبول ما يقارب 66 ألف لاجئ منهم.
وإذا كانت الجهود الدولية التي أطلقت على هيئة وعودٍ، بعد حادثة غرق إيلان، ليست إلا فرقعات للتداول الإعلامي، فإن الجهود الفردية غالباً ما تؤتي أكلها، وتفضح السياسات الدولية التي تجيد امتصاص غضب الشعوب، بعد كل حادثةٍ مفجعةٍ، والتي لن يكون أخرها حادثة الطفل السوري عمران دقنيش أيضاً، المجسّدة مأساة الحرب السورية، ففي كندا قام طفل فلسطيني اسمه يحيى شريم بجمع تبرعاتٍ من الكنديين، وتمكن من كفالة عائلةٍ سورية، بعد أن اقنع الكنديين بعدالة قضية اللاجئين.
وعلى الرغم من أن الحملة التي قادها يحيى ذو التسع سنوات لم تكن سهلة، لكنها كلفته جهداً كثيراً، وهو يقوم كل يوم بجولةٍ، يشرح فيها وجهة نظره بضرورة مساعدة "الآخر"، بغض النظر عن جنسيته، فبدأ بأصحاب المحلات التجارية الكبرى والبنوك، وبعد جهدٍ استطاع أن يقنع أكثرهم بوضع حصالةٍ لجمع النقود في محلاتهم، كتب عليها عبارة "ساعدوا في دعم السوريين".
وفي المحصلة، جمع يحيي مبلغ 17 ألف دولار، واستطاع بمساعدة رجل أعمال كندي، استكمال الأوراق اللازمة لكفالة الأسرة السورية التي أصبحت تقيم الآن في منزل عائلة يحيى.
مبهجٌ أن يفعل طفلٌ فلسطينيٌّ مغترب شيئاً من أجل عائلةٍ سوريةٍ لاجئة، وأن يكشف صمت وتخاذل وتقلب عالمٍ يفترض أنه سيحيي بعد أيام ذكرى أحداث 11 سبتمبر، وبوقد الشموع في مكان انهيار البرجين، ويعاود النواح على الرواية الأميركية عن فعلة من قوّضوا أمن نيويورك الهادئة، ما يزيد من قناعة واشنطن بسياستها تجاه الإرهاب، وتشديد حملتها ضده، عبر إيجاد قوى جديدة، بدلاً من القديمة التي أصبحت مستنفدة من وجهة نظرها، وهي القوى التي أصبحت نواة الحروب الأهلية التي ما تزال مشتعلة.
ولا ريب أن سياسة أميركا تجاه أحداث "أيلولها" التي بلغت خسائرها في الأرواح 2752 قتيلا، وهي أعلى نسبة ضحايا في تاريخها الحديث، تشبه كثيراً ما قامت به مواطنة أميركية، تدعى تانيا هيد، التي ظلت تظهر على وسائل الإعلام، وهي تبكي ما تعرّضت له من ضغوط نفسية، إبّان أحداث أيلول، وأبكت العالم معها، لكن حقائق جديدة أثبتت، بعد سنوات، أنها لم تكن داخل أميركا كلها حينذاك.